قصة قصيرة
الغريبة
انها عقارب الساعة الثانية عشرة تماماً ، وموعد عودتها من المدرسة . تتجاوز باب المدرسة بخطوات سريعة ، تتلفت يميناً ويساراً كما في كل يوم ، ثم تختفي بين جموع الطلاب المبعثرين في الشارع الطويل .
كان ذلك اليوم رمادياً كغالب الأيام ، كحقيبتها المعلقة بين كتفيها ، وكظلها المتنقل حولها بين ساعات النهار حينما تختفي الغيوم . لم يكن أسوداً كباقي ظلال الطلاب ، ولم ينتبه اليه أحد في زحمة الظلال الكثيرة الممتدة على طول الشارع .
تجاوزت كعادتها باب المدرسة الحديدي . كان دافئاً على غير عادته ، ربما لأن السماء في هذا اليوم تحررت من عبء الغيوم الثقيلة ، لتنشر الشمس دفئها الرطب على كل ما تراه ، على الشوارع والأرصفة والأشجار والوجوه .
كان ظلها آنذاك يتبعها من خلفها ثقيلا ومرتعشا ، كأنه يحاول أن يوقفها عن المشي ، لكنها تصرّ على السير على الرغم من تآمر كل الظلال الزاحفة من حولها ، مع جميع أصوات المركبات العابرة و صراخ الباعة والأطفال العائدين الى بيوتهم .
لم تكن تعرف أن الزمن هو صديقها الوحيد الذي كان يراقبها بحزن ، وينتظر أن تحين الفرصة حتى يصافحها ويحتضنها فيغيب بها نحو العدم.
أسرعت نحو الشارع الأخير لتتجاوزه قبل الآخرين ، فالتفتت يميناً ثم يساراً ، ثم أكملت بخطىً أسرع فأسرع .. إلا أنها استفاقت فجأة بين ذراعي والدتها التي تحاول أن تجذبها بقوة إليها قبل أن تنزلق من حضنها وتهوي في دوامة العتمة .
شعَرتْ بدموع والدتها فوق خدها وهي تعاتبها بمرارة ..
– ” لماذا يا حبيبتي ؟”
لكنها استجمعت بعض قواها الخائرة قبل أن تختفي الى الأبد ، ليبقى صدى صوتها يتردد قبل أن تبتلعه الدوامة ايضا وهي تقول :
” سامحيني يا أمي .. لم أعرف كيف حصل الأمر .. كل ما أذكره أنني التفتّ الى جانبيّ ، كما أوصيتني دائما ، لأتأكد من خلو الشارع ، لكنني لم أرى اي شيء ، صدقيني لا أعرف ما الذي جرى”
تحت شمس الظهيرة ، كانت ممددة وسط الشارع ، فوق إحدى خطوطه الرمادية المتقطعة ، لكن حقيبتها لم تسقط من بين كتفيها ، بل مالت نحو الأرض قليلا ، وكأنها تريد أن تستريح .
كانت خيالات الطلاب حينها منتشرة جميعا في الشارع الا خيالها الذي اختفى تحتها فجأة ، لكنه كان يحاول التسلل بصعوبة .
لم يكن منظر الشارع مشوهاً بالجموع المبعثرة للطلاب وأصواتهم المتراشقة هذه المرة ، فقد تحولوا خلال لحظات الى صورة هلال أحاط بجسدها النحيل لمحته السماء سريعاً ، على الرغم من كل ضجيج المركبات ، وصراخ السائقين ، والجموع المتزايدة .
كان خيالها يتسلل من تحت رأسها على استحياء، ويتمدد متجاوزا حاجز ضفيرتها الشقراء القصيرة ، لكنه لم يكن رمادياً كما كان سابقاً ، بل أحمراً قانياً ودافئاً ، كدفىء شمس ذلك اليوم ، و دفء اسفلت ذلك الشارع الطويل .. دافئا كدفء دمعة والدتها التي لامست خدها اخيراً قبل أن تهوي في أحضان العتمة السحيقة.
