ثلاث جرائم .. في غربةٌ وحيدة
(من وحي العمل )
كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل عندما رنّ هاتفي بصوته المزعج .. لابد أنهم الشرطة ، ويجب علي أن اجهز نفسي خلال دقائق لأكون على رأس عملي ، فهم في طريقهم الي دون شك لأخذي الى مبنى الادارة .
لم يكن المتصل شرطيا ، بل كان رجلاً ذو صوت ضعيف ومتهالك ، يتحدث بنبرة محتضرٍ يوصي من حوله قبل موته المؤكد .
– أعتذر لاتصالي في هذه الساعة المتأخرة .. لكنني أقسم لك أنني اضطررت لذلك ، ولا يمكن أن اسأل احدا غيرك في هذه الساعة ليساعدني في حل هذه المشكلة .
كنت احاول بجهد استيعاب كلام الرجل في غمرة النعاس ، فلم يمض على نومي ساعة حتى اقتلعني هذه الاتصال من أعماقه فجأة ..
– ما المشكلة يا أخي ، تفضل ؟
– طفلتي يا استاذ ، توفيت مساء البارحة ، أي قبل ساعات ..
– رحمها الله تعالى ، صبركم الله .
– المشكلة يا استاذ أننا نريد إخراجها من المشفى ، ولم نفلح في ذلك حتى الآن …
– لماذا ؟ ما المشكلة يا أخي؟
– الكملك .. ليس لديها كملك .
– هل هي حديثة ال…
– نعم نعم .. لقد ولدت منذ يومين ، وأخذوها من حضن والدتها ليضعوها في الحاضنة ، ربما بسبب ولادتها المبكرة ، أو هنالك سبب آخر لم أعرفه ، فلم اتمكن من فهم ما قالته الطبيبة و الممرضة ، وأخبروني بعد ذلك أنها قد توفيت ، ونقلت الى ثلاجة الموتى .
– لكن عليهم أن يخرجوها مادامت قد توفيت ، ماذا قالوا لك ، هل أنت متأكد من أنهم يطلبون كملكاً للطفلة المتوفاة؟؟
كيف استطعت فهمهم ان كنت لا تفهم ما يقولون ، لابد أن هناك سوء تفاهم .
– لا لا .. فيما يتعلق بهذا الأمر تحديدا ، فقد استوعبت وفهمت ما يطلبونه ، إنه الكملك ..
– الكملك ..!! ومنذ متى كان الأموات من الأطفال يحصلون على كمالك يا اخي ؟ ألا يفهم الموظفون ذلك ؟؟ هلّا حملت هاتفهك اليهم لعلي أفهم المشلكلة ؟
– سأحاول حالا أن اجد الموظفة التي كلمتني منذ قليل ..
استعدت وعيي تماما بعد أن سمعت مشكلة والد الطفلة المتوفاه ، وحاولت أن انتقي بعض الجمل القوية لتوبيخ تلك الموظفة عديمة الرحمة ، ورحت اخطو في الغرفة جيئة وذهابا ريثما يصل الهاتف الى تلك الموظقة ، لكنني توقفت قليلا ثم تساءلتُ:
– ” وما ذنبها هي ؟ أليست مثلي تماما ، تتلقى الأوامر فقط ؟ الأوامر .. الأوامر و التعليمات .. ولا شيء دون ذلك .
أجابت الموظفة بنبرة بدت عصبية :
– نعم ، تفضل ؟
تحدثت معها بكل لباقة كما اعتقدت ، وشرحت لها استحالة استخراج كملك لشخص متوفى لا يحمل كملكا من قبل ، فردّتْ عليّ بجملٍ روبوتية مألوفة وهي تشرح بعض قوانين المشفى ، وكان واضحا أنها مشغولة بالرد على عدد كبير من المراجعين الذين تداخلت أصواتهم مع صوتها بشكل واضح ، ثم أغلقت الهاتف دون أن تنتظر مني استفسارا ..
اتصل الرجل مرة أخرى معتذرا ومتحيرا في مصيبته التي وقع فيها ، فَحُزنه على ابنته المتوفاة كان مجبوراً على تأجيله ، ودموعه لم تعد حرة ليذرفها في هذه الحال ، ولربما كان ضميره يؤنبه لانشغاله عنها في اجراءات وتفاهات روتينية كان يمكن ان تمر بسلاسة وببساطة حتى دون أن يشعر .
طَلبتُ منه أن ينتظر قليلا حتى أخبر المدير وأشرح له الوضع ، حيث كان لابد من إيقاظه في هذه الساعة المتأخرة لحل المشكلة .
شرحت له الأمر باختصار ، فطلب أن اعطي رقمه للرجل ليصله مع الموظقة ففَعلتٌ ، وأخبرت الرجل بأن يتصل بي فور انتهاء اتصالهما ليخبرني بالنتيجة .
اتصلَ بعد قليل ، فاخبرني بأنها لم تقتنع بعدَ أَخذٍ وردٍّ دار بينها وبين المدير على الهاتف ، ثم اتصل بي المدير ليبلغني أنه لم يفلح أيضا باقناعها بان الطفلة قد توفيت ، ولا حاجة لاستخراج كملك لها ، فهي ستدفن فور خروجها من المشفى ، لكن ما العمل ؟ فليس باليد حيلة ، ويجب علينا كإدارة مساعدة هذا الرجل المسكين بأسرع وقت .
طلبت من الرجل ان يسافر ليلا على الفور حتى يصل باكرا ، وان لاينسى شهادة الولادة لطفلته الميتة ، تلك الشهادة التي ستحصل بموجبها على ” الكملك” ..!!
صباحاً ، وقبل الساعة الثامنة كان يقف امام المبنى ، فعرفته من حزنه الذي تلبّسَه ، وشروده في افكار ربما لم تخطر على باله يوما . كان متعباً من كل شيء ، من الهم والحزن والسفر والغربة ومن قسوة هذا المبنى الذي انتصب عاليا أمام عينيه ، وتزّين بلوحات عريضة مكتوبة بأحرف باردة لا تعني له أي شيء .
دخلنا سوية الى غرفة تسجيل المواليد الجدد ، ثم أخرج من جيب سترته شهادة ولادة لابنته قبل ان أطلبها منه ، وأسند ظهره الى الكرسي وغاب في أفكاره مرة أخرى .
لقد سبقَ وأن استلمتُ شهادات وفاة لمئات من المتوفين من أطفال وكبار من رجال ونساء على مدى اكثر من سبع سنوات ، لكنها المرة الأولى التي أستلم فيها شهادة ولادة لطفلة ميتة .. ليست على قيد الحياة ، ويطلب مني ان استخرج لها كملكا ..
………………
يحضر الأب والأم عادةً الى الإدارة ، ويجلسان امام طاولتي ، ثم يتبادلان احتضان طفلهما ومداعبته خلال قيامي بتسجيله في ” السيستم ” فيجيبان على أسئلتي سويةً وبصوت واحدٍ من شدة فرحهما ، ثم يعودان لملاعبة الطفل وتجهيزه معاً لألتقط له اجمل صورة ستوضع على الكملك ، فأشعر بالممل احيانا من طلبهما بإعادة التقاط صورة افضل للطفل ، ثم يعودان ليختلفا على اخيار اسم للطفل .. فيختار احدهما اسماً فيعترض الآخر ، ثم يتفقان اخيرا ، فأسجله في السستم ، ثم ينتظران لاستلام كملك طفلهما ليطلقا عنان فرحتهما خارج المبنى ..
لكنني الآن أحمل شهادة ولادة بدلا من شهادة وفاة ، فالطفلة ليست موجودة امامي ، ولاهي موجودة في الحياة اصلا .. ثم يُطلب مني أن أحييها وأسجلها وامنح لها كملكا كأي طفل آخر ولد حديثا ، ثم بعد ذلك بيوم او ساعات ربما ، يُطلب مني أن استلم شهادة وفاتها لأوفّيها على السيستم أيضا ..
بدأتُ بادخال البيانات على الورقة المخصصة ، ثم انتقلت الى جهاز الكومبيوتر لحفظها في السيستم ، تاريخ الولادة .. اسم المستشفى .. أسماء الأب والأم ومكان الولادة .. ثم توقفت عند مربع الصورة الفارغ على يمين الشاشة ، وتذكرت أن الطفلة غير موجودة حتى التقط صورة لوجهها ..
– ألدَيكَ صورة لابنتك على هاتفك ؟
كان سؤالي المفاجىء قد أعاده من شروده الذي استغرق فيه منذ قليل .
– لا .. فلم يسمحوا لي برؤيتها اصلا .
– اذاً لا حلّ سوى أن أختار لها صورةً لطفلةٍ أخرى .
كان معرض الصور في جهاز الكومبيوتر مليئاً بآلاف الصور لأطفال حديثي الولادة على مدى سنوات عدة ، أطفال متشابهون كثيرا ، لا تميزهم الا بعض القبعات الصوفية الملونة التي البستهم إياها أمهاتهم ، لكن اولئك الأطفال من ذوي القبعات الصوفية كانوا قليلين جدا ، ويعرف جنس بعضهم من لون القبعة ، اما الأطفال الباقون فكانوا أكثر تشابها ، ولم يكن جنسهم معروفا ..
بما انها كانت طفلة ، وضعت مؤشر الفأرة على صورة طفلة كانت تلبس قبعة وردية لأختارها . كانت مغمضة العينين ، تبدو مطمئنة ومستغرقة في نوم عميق ، ربما نامت بعد أن شبعت من حليب أمها فاستسلمت للنوم .
تذكرت كلام والد الطفلة عندما وصف لي كيف أخذو الطفلة من من بين ذراعي امها فور ولادتها ، ثم مرّت من أمام عينيه على عجل دون أن يتمعن في وجهها للحظة أو حتى يلمسها ، فوُضِعت في الحاضنة ، ثم في ثلاجة الموتى ، دون ان يرى حتى بعضاً من ملامح وجهها الصغير .
لم يكن امامي من خيار الا أن اختار صورة تلك الطفلة ذات القبعة الوردية ، لكن صوتا بعيدا كان يؤنبني ، سرعان ما اقترب من أذني وصار يهمس بحزن : ” لمَ أنا ؟ ” .
كان ذلك صوت الطفلة ذات القبعة الوردية .. كانت همسها معاتبا مؤنباً متسائلاً : ” لمَ أنا ؟؟ “
حاولت ان أنفض أفكاري من جديد ، فلا وجود الا لحديث عبثي يدور بيني وبين نفسي ، لكن .. اليست محقة ؟
لماذا اخترتها هي لتكون صورة لطفلة ليست في الحياة اصلا ؟
ولماذا احاول أن أخطف وجهها المشرق البريء لأدفنه خلسة أثناء نومه ؟؟
لماذا أعبث وأسرق واتحكم بمصير آلاف الوجوه الصغيرة الغافلة والغائبة في معرض الصور ؟ أفلا أشبه ذلك الجلاد المجرم الذي يقف وسط ساحة ضاعت حدودها ، وهو يتفرس في وجوه ضحاياه ممن أغمضوا اعينهم ، أو أُغمِضت او رفضت ان تُغمض ، أو ربما اقتُلعتْ عنوة حتى لا تتحدى عيني ذلك الجلاد القاسية ؟؟
أغلقتُ ملفّ الجريمةِ فورا ، وأسكتّتٌ كل الأصوات المتصارعة في داخلي ، واخترت وجه الفتاة ذات القبعة الوردية دون أن أظهر اية رحمة ، ثم هيأت نفسي لارتكاب جريمة أُخرى :
( الإسم ) .
أجفلتٌ بصوتي الرجل مرة أخرى ، عندما سالته عن الاسم الذي كان ينوي تسميتها به .
– صدقني لا أعرف ، فلم يخطر لي ان اسميها بعد .. او انني لم امتلك الوقت لذلك ..
– هل تسمح ان أسميها انا ؟
– سمّها ما شئت ..
لا اعرف كيف خطر في بالي اسم ” غُرْبَة ” لاختاره اسماً لهذه الطفلة .. فلتكن إذاً اول مرة أختار فيها اسما أُطلقه كرصاصة على طفلة ميتة دون اسم .. فقيدت الاسم في السستم ، ورحت اضيف البيانات والمعلومات الباقية بكل حرّية دون أن أحتاج ان اوقظ الأب من غفوته في بحر أفكاره ..
كان مشهد الجلاد قد علق في مخيلتي وهو يقف وسط آلاف من صدى الصرخات الجامدة في ساحة لاحدود لها ، لكنها كانت محكمة الإغلاق .. وهذه المرة كنت أحمل قلم لوح بلون أسود ، أسجل فيه أرقام الموتى المنتشرين حولي بشكل عشوائي على جباههم .. كنت اسجل الأرقام دون ترتيب ، بالعشرات .. والآلاف والمئات ..
كنت حراً طليقاً أكتب ما أشاء ، وحيدا لا يراني أحد ، الا تلك العيون الغائرة المطفأة كثقوب سوداء تحاول ان تجذب كل شيء .. لتخبره بكل شيء ..
………………….
إنتهيت أخيراً من ادخال البيانات ، وطلبت منه الانتظار قليلا حتى أطبع الكملك واقوم بختمه وتجليده ، وحاولت ان أسرع قدر الإمكان عندما علمت ان سيارة أجرة كانت بانتظاره في الخارج ليعود الى المشفى في ولاية انقرة حيث ترقد ابنته في ثلاجة الموتى.
مد يده بهدوء واخذ الكملك ، ثم تأمل صورةً لم تكن لابنته ، وحاول بصعوبة أن يقرا اسماً لم يكن قد اختاره لها ، ثم أومأ برأسه ببطىء ودس الكملك في جييه ، ومضى الى الخارج وكأنه يريد ان يختلي بدموعه .
مضى يوم كامل تقريبا ، فعادَ وفي يده وثيقة علمت أنها وثيقة الوفاة ، ثم أخرج الكملك من جيبه ووضعه فوق وثيقة الوفاة ، وقال :
– تفضل يا استاذ ، هذه هي الوثيقة ، لقد خَرّجناها اخيراً ولله الحمد ، وقمنا بدفنها منذ قليل ، شكرا على كل شيء .
مضى الرجل هذه المرة بملامح حزينة لكن راضية وقانعة ، وكانت خطواته البطيئة وغير المستعجلة تسير على ايقاع مهيب يرافق حزنا من مقام الصبا تتداخل فيه نغمات عتب من مقام البيات .
……… ………..
لم تكن الجريمة الثالثة بأصعب من الأولى والثانية ، فإحياء الطفلة بعد موتها ، ثم تسميتها ، ثم إماتتها مرة تارة أُخرى لم تكن بالمعجزة ، فلا يكلف الأمر الا ان افتح هذا السستم اللعين وأمرر بمؤشر الفأرة على الشاشة ، ثم اختار بين مربعين :
( حي ) أو ( ميت ) .
وإلى ذلك المجرم الجلاد يعود المشهد للمرة الثالثة ، وهو يوزع شهادات حياةٍ ومماتٍ لأهالي هؤلاء الموتى جميعاً ، وهم ينتظرون رحمة تدفنهم جميعا وتخلصهم من ظلام هذا العالم الثقيل .
كان يلقي بالوثائق في كل اتجاه ، فيلاحق أهالي القتلى تلك الوثائق التي تحملها دوامة الريح الدائرة بشدة من حولهم ، فلعلهم يجدون أيّ شهادة تحمل اسماءً لأولادهم ، حتى ولو كانت أسماء وهمية .. بل حتى لو كانت أرقاماً ..
كان رجع صدى قهقهته قويا مدوياً يدور حولهم جميعا ويردد :
” أنا أُحيِي وأٌميت “.. ” أنا أُحيِي وأميت ” .
…………………………………………