قصص اللجوء
راضية ..
طرقت بيدها الخائفة باب الصف ،ثم فتحت لتدخل كما كانت تفعل في كل يوم ، بابتسامة يائسة ترتسم على وجهها في مثل هذه اللحظة تماما .. كما في كل يوم .
توجهت بكل هدوء الى مقعدها في زاوية الصف دون أن تلقي بالاً لتوبيخها من قبل المعلمة الغاضبة بأبشع الكلمات ، والنظرات المحتقرة واللئيمة ، فتابعت السير حتى وصلت الى المقعد ، ثم انزلت حقيبتها عن ظهرها والتصقت بجداري زاوية الصف كالمغناطيس ، ثم توقف جسدها عن الحركة بشكل كامل ، وبقيت عيناها اللتان كانتا تطرفان بسرعة منذ صراخ المعلمة بها من مصطبتها المرتفعة وحتى وصولها لمقعدها أمام عيون الطلاب .
كانت “راضية” تمرر كل ما تسمعه كلمة بكلمة ، وكأنها ترمي بالكلمات المسموعة في مكان ما لا ترغب بمعرفة مكانه ، ولا تكترث بضحكات الطلاب الساخرة من حولها . حتى اولئك الطلاب الذين يجلسون في المقعد الموجود أمامها تماما ، لم تسلم من نظراتهم الشامتة المستمرة على وقع نوبات غضب المعلمة.
كانت تقابل كل ذلك بصمت عجيب رهيب ، وكأنها تعيش بجسدها في الصف معهم ، لكنها اودعت روحها في عالم آخر ، أو خلعته من جسدها وتركته في مكان ما قبل أن تدخل الى الصف ، لأنها كانت تعرف مسبقا ماذا سيحصل ، كيف لا وهذا الامر يتكرر في كل يوم عشرات المرات ..
كنت أجلس في مقعدي المحاذي للجدار وأسفل النافذة على يسار مقعد راضية في منتصف الصف تقريبا . وربما كنت الوحيد ممن لم يشترك يوما في الضحك أو السخرية من راضية ، ولعلها لم تلاحظ ذلك يوما ، فنادرا ما ترفع رأسها لتنظر الى وجوه الضاحكين والساخرين منها، فتبذل الجهد كي تتجاهل ما تسمعه وتراه ، فكانت تشغل نفسها بخربشاتها اليومية على خشبة المقعد أمامها بفكر شارد وقلب غائب ، الى أن تفزعها صرخة المعلمة التي كانت تباغتها مثل طلقة غادرة .
سمعت في ما مضى أن والدتها كانت قد تسببت دون قصد بانسكاب الزيت المغلي فوقها في المطبخ ، واثناء شجارها مع والدها ، فاحرق الزيت رقبتها وشوهه بطريقة امعنت في القبح والتوحش .
لم تفلح العمليات الجراحية كلها في اعادة رقبتها الى ما كانت عليه ، بل زادت تلك العمليات من التشوه ، فيئس الأهل آخر المطاف ، وتركوها لمصيرها وآلامها مع الدنيا وأهل هذه الدنيا ، وأسلموا أمرهم الى الله ، وهاهي تجني عاقبة جرم لم تقترفه ، فتتألم من رصاص الكلمات الطائشة المنطلقة من أفواه أولاد أشرار لا يعرفون معنى الرحمة .. لكنهم لازالوا في مثل عمرها ، وربما ستتحمل الالم والعذاب الى أن يغيب التراب وجهها ورقبتها عن وجه هذا الدنيا ، غير آسفة عليها ابدا أبدا.
كانت تلك الابتسامة اليائسة على شفتيها المرتجفتين تثير فيّ شفقة عليها وحزنا عميقا ، فتحاصرني عشرات الأسئلة التي نبتت في نفسي شيئا فشيئا ، فكنت أرغب احيانا بشدة أن اذهب الى مقعدها في آخر الصف لاجلس الى جانبها وأتحدث اليها ، فأسالها عن مقدار ذلك الالم الذي تشعر به عندما ترمقها كل هذه الأعين الشريرة التي تحيط بها كعيون الذئاب ، أو عندما تحمل حقيبتها عند انتهاء الدوام ، فتكون آخر من يخرج من الصف ، وربما من المدرسة ، متفادية أعين اولئك القناصين من الطلاب المنتشرين بالقرب من المدرسة وفوق أسوارها العالية.
كنت أرغب أن اشاركها همها والمها او أن احمله قليلا عنها بطريقة ما ، أو ان اروح عنها قليلا …
انه ذلك الهم .. الهم الذي كان يجدد نفسه ربما كلما وقفت وحيدة وهي تحاول أن تختلس النظر الى وجهها في مرآة غرفتها الظالمة، فلربما ترى يوما معجزة .. أوتستيقظ من كابوسها الجاثم والمقيم .
كنت أريد فقط أن تحكي لي ولو في غمرة من دموعها عن تلك الساعات التي كانت تخلو فيها مع نفسها ، حين يخلد الجميع الى النوم ، فتبلل وسادتها بدمعوعها خلال نحيبها المدفون الف الف مرة في حضن تلك الوسادة .
ربما اشاحت بوجهها عن تلك المرآة آلاف المرات ، ثم عادت لتنظر مرة أخرى ولعشرات المرات .. حتى تتأكد من أن هذا التشوه في رقبتها ليس مجرد حلم أو كابوس عابر .
كنت أرغب أن أقف أمامها ، أوالى جانبها ، حتى لو كنت عاجزا عن فعل أي شيء ، فقط أجلس لأنتظر جفاف دموعها وعودة تلك الابتسامة البائسة المحفورة في وجهها الحزين ، فلم يكن ذلك ذنبها ، كما انه ليس ذنبي انا ، ولا حتى ذنب امها التي انسكب بسببها الزيت المغلي على رقبتها .
كنت أرغب ان اقنعها أن ذلك القلب الذي ثقل علي حمله قد تشوه منذ زمن بعيد كما شٌوهت رقبتها التي ستتحول يوما الى أثر بين أنقاض الزمن .. لكن ذلك القلب كان قد اختار بنفسه أن يسجن نفسه بارادته بين الضلوع ، واكتفى بهمس يشبه النبض .. دون أن يهدأ للحظة واحدة .
اعلم انني ربما أكون محظوظا بأن احدا لم ير قلبي المشوه ، لكنني أعدك أن أتألم وأحزن وأتعذب كما تتعذبين كل يوم .. في الليل وفي النهار ، في المدرسة والمنزل ، في أحضان الطبيعة وفي خلواتي تحت غطاء السرير .
اعدك أن ابادلك ابتسامتك البائسة تلك … اعدك ..