99- ( قصة قصيرة)
تنفس عبود الصعداء أخيرا ، بعد أن نجح بتجاوز الخنادق والجداران الاسمنتية والجندرمة والجبال والوديان بمساعدة ” ابو الوطاويط” ، أشهر المهربين المحترفين على مستوى الشريط الحدودي .
لم تبق إلا خطوة واحدة ، وهي ليست صعبة كسابقاتها ، وهي أن يأتي ” دولمش أبو الوفا ” في أقرب وقت ،حتى ينقله الى وجهته الأخيرة ، وهي الولاية الوحيدة التي لا تزال تمنح كملك أصفر ٩٩ .
حصر عبود مؤخرته بين أربعة شبان كانوا مثله تماما ، يحملون حقائبهم الملطخة بالأوحال ، ويشيرون الى ابو الوفا بأن يكف عن ” دحش ” الركاب في الدولمش ، فلم يعد هناك متسع للجلوس ولا حتى في الممر الضيق ، كما أن دخان السجائر الكثيف كاد يتسبب بمشاجرة بينهم ، فالبرد القارس ، ولاسبيل لفتح النافذة بسبب النسمات الحادة كنصل سكين ، فكان أحد المحشورين في الزاوية يردد طوال الطريق :
يا شباب : ” دخان يعمي ولا برد يقتل ..”
أوصاه والده أن يذكر الله طوال رحلته الى تركيا ، وأن يستغفر كلما نسي ، وأن يدعو بأسماء الله وصفاته :
– يا ابني : ” ان لله تسعة وتسعين اسماً ، من أحصاها دخل الجنة “
فكان لا يفتر عن التسبيح والتحميد والتهليل ، ويمرر حبات مسبحته ذات ٩٩ حبة بين أصبعيه ، ثم ينهيها ويبدأ من جديد ، وهكذا طوال رحلته ، وكلما أنساه الشيطان ذكر ربه .
دامت الرحلة للوصول الى الولاية أكثر من سبع ساعات امضاها كلها بالذكر الذي طغى عليه شخير الشبان المنهكين الذين غلبهم النعاس ، وألقى برؤوسهم فوق اكتاف بعضهم .
– وصلنا يا شباب ، الحمد لله على السلامة .
أفاق الشبان بصعوبة من نومهم العميق ، وحمل كل واحد منهم حقيبته ليتجه الى بيت قريب ، أو صديق أو سمسار ، بينما انطلق عبود الى العنوان الذي ارسله له ابو عبد الله ، ابن قريته وصديق الطفولة . لم يطلِ السير في الشارع الرئيسي ، فقد كان ابو عبد الله الذي علم بموعد وصوله بانتظاره عند أحد المنعطفات ، ليأخذه بالأحضان ، ومن ثم الى بيته المتواضع .
جلس الاثنان على مائدة الإفطار يتذاكران أيام الطفولة في القرية ، وايام دروس المسجد عند الشيخ همام ، والتي سماها ابو عبدالله ب ” أيام الخير ” ، فكان الناس يعيشون ببساطة ودون تعقيد ، وكانوا يتزاورون دون اتصال أو مواعيد ، ويتشاركون افراحهم واتراحهم ولقمتهم .
– هون يا صاحبي محدا لحدا . جيبتك وبس ، وإياك توثق بحدا.. انتي جاي جديد ولسا ما بتعرف الوضع ، بس محسوبك صرلو ١٢ سنة ، وصرت هلق احسن افهم الشخص من نظرة وحدة ، وقللك شو هوي ، وشو ماضيه ، ولك حتى بقلك شو بدو يسوي بعدين.
انا زبطلك الوضع بكرا ، وبكرا ان شاء الله بتبصم وبتاخد احلى كملك أصفر ٩٩ من ايد ابو عبدالله ، وانا والله ..ثم والله … الله يشهد علي ماني آخد منك فرنك ، بس بتعرف يعني السمسار والادرس وصاحب البيت وغيرن .. كلو بدو .. ومافي شي بهالدنيا ببلاش .
هلق انتي نام شوي ، وريح حالك ، وبعدين رح نروح انا وياك نتمشى بالمدينة ، ورح عرفك عكم واحد من الشباب عكيف كيوفك ، ولسا بس تاخد كملك ٩٩ ، رح ابعتك لعند صاحبي باسطنبول ، عندو مشغل طويل عريض ، واذا ما عجبك الوضع من هنيك بتشلف حالك عاوربة ، يعني امورك محلولة ان شاء الله .
استيقظ عبود مبكرا في اليوم التالي ، فلم ينعم بليلة مريحة عند ابو عبدالله كما كان يتوقع ، فسهرة الورق التي بدأت مساء امس كانت عامرة بالشرب والسباب بالقرب من وسادته ، و امتدت حتى الفجر ، حيث قام الى صلاته متثاقلا ثم نام لمدة ساعة تقريبا ، ثم حاول عبثا أن يوقظ ابو عبدالله ليرافقه الى ادارة الهجرة للتنسيق مع السمسار وتيسير أمره .
لم يستطع ابو عبدالله أن يرفع رأسه عن الوسادة على الرغم من محاولته ، لكن عبود الذي كان يقف عند رأسه ، فهم بعد عناء شديد من هذيانه أثناء نومه جملة قصيرة : “
” السمسار عم يستناك .. هاتفوا .. معي ..يتصل قلو … عند الباب “
لم يشأ عبود أن يلح في إيقاظه وسؤاله ، بل اتجه نحو الحمام سريعا ليتوضأ ويصلي ركعتين قبل ان ينطلق الى الادارة ، فسجد وأطال السجود ، ودعا الله وألح في دعائه ، واحصى اسماءه ال٩٩ …
ولكن .. ماهذه المصادفة ؟
لقد ذكر الله تعالى باسمائه ال ٩٩ ، والكملك الذي سيستلمه اليوم يبدأ بالرقم ٩٩ ..!!
غمر الفرح قلبه ، ورفع يديه راجيا بأن يمر موضوع الكملك على خير ، فقد وصلت الإشارة الأولى .. ثم مسح وجهه وفتح كفيه مجددا ناظرا اليهما لتظهر اشارة أخرى ، لكنها كانت هذه المرة كلمعة برق في قلبه المعتم ..
لفت نظره الرقمان المرسومان على باطن كفيه : الرقم ١٨ على كفه الأيمن و الرقم ٨١ على كفه الأيسر ..
– يا ويلاه ، كيف هيك مرقت علي ؟ من وقت كنت صغير كنت احسبهم .. لك ٩٩ !!… ٩٩ اي والله ! لك زبطت ..
كان الطابور طويلا جدا أمام باب إدارة الهجرة ، وعناصر الشرطة يصرخون بكلام لم يفهم منه الا معنى كلمة واحدة
” ولان ” .
استطاع عبود ان يعثر على السمسار بين حشود المنتظرين ، فأشار اليه السمسار أن يتبعه ، بعد أن همس في اذن أحد عناصر الحرس ليساعده في الدخول .
تجاهل عبود جميع السباب والشتائم التي انطلقت من أفواه الحشود الغاضبة ، وذلك عندما انسل من بينهم سريعا الى داخل المبنى ، ثم شعر بالراحة والخلاص عندما وصل الى قاعة الانتظار ، وجلس الى جانب السمار ينتظره موعده الذي رتبه له مسبقاً .
– شايف هدول القاعدين هنيك ؟؟ أشار السمسار باصبعه ..
– اي ، شبهم ؟
– كلن زبايني ، وعن طريقي انا بس .
– ماشاء الله ، والله شغلتك كبيري ..
أفزعت عبود رنة هاتف السمسار على نغمة :
” يا حرام .. بيّن رقم المحرّك .. هوهو … “
– هلااا ابو عبدالله .. اي اي ليكو جنبي عم يستنا .. لك لاتخاف يا زلمي بعيوني والله .. ابشر ابشر .. . اي ماشي لكن عم استناك لاتطول ..
هاد قرايبك جاي بعد شوي ، عم يوصيني فيك .
– الله يجزيك ويجزيه كل خير ، والله ما قصرتو .
بعد حوالي ساعة ، دخل ابو عبدالله مسرعا ، فامسك بيد عبود وقال معتذرا :
” مشان الله لا تواخذني ، يعني شفت كيف مبارح ، الشباب كانو معبين الطاسة وسحبوها للصبح “
– عادي عادي ابو عبدالله مافي مشكلة ولا يهمك ، بس من ايمتا صاير عم تشم وتشرب ؟؟
– ليش هالدنيا بتخلي بالواحد عقل يا شيخ .. خليها عربك ، ليك الشيخ همام صار بايطاليا ، الك خبر مو ؟
– ايطاليا ؟ الشيخ همام ؟ معقول ؟ والله مالي خبر ..جد ؟؟
– لك وين عايش انتي يا زلمي . ههه .. قال مالو خبر قال .. سيدي الله غفور رحيم .. ما بتتذكر وقت كان كل ليلة يحكيلنا قصة اليهودي يلي قتل ٩٩ نفس ، وآخر شي الله سبحانه تاب عليه .. بتتذكر مو ؟؟ .. لك شبك ليك هيك فتحت تمك وفنجرت عيونك كأنو لطشك شي جني ؟ شبك ؟شو صرلك ؟
لم يكن عبود يسمع في تلك اللحظة سوى أصداء لصوت الشيخ همام ، وهو يروي حديث اليهودي الذي قتل ٩٩ نفسا ، ثم تاب الى الله توبة نصوح فتاب الله عليه ، ولم يكن يبصر آنذاك سوى أرقام ٩٩ كثيرة تموج وتتلوى أمام عينيه ..
– يا الهي ، معقول ؟! شو هالاشارات هاي ؟! .. معقول ؟؟
أشار السمسار الى عبود بالدخول الى غرفة المقابلة والبصم ، فسار معه عدة خطوات هامسا ببعض الجمل في اذنه ، وعبود يهز رأسه موافقا .
– متل ما علّمتك ، تمام ؟
– تمام .
غاب عبود خلف باب غرفة البصم أكثر من نصف ساعة ، ثم خرج وبيده ورقة مختومة من طرفيها وعليها صورته ..
– قلّي الموظفة خالص ، وعطاني هاي الورقة .
– بصمك شي ؟
– اي
– طيب ليش هاي الورقة ؟ لازم كملك … كيف هيك؟
أمسك السمسار بالوثيقة التي كتب في طرفها العلوي ” وثيقة قيد أولية ” ، وصار يتمعن في تفاصيلها ، فلربما يجد تفسيرا لما حصل . التفت نحو باب الغرفة وفكر قليلا ، ثم فتح الباب وتوجه الى موظف البصمة مباشرة .
– سيدي ؟ في مجال اسالك سؤال ؟
– تفضل وبسرعة شوي .
– هلق ليش صديقي اخد هاي الورقة وما أخد كملك ؟ في مشكلة يعني ؟
– للأسف ماعاد في كمالك ، بس وثائق بتبلش بالرقم ٩٨ .
– كيف ٩٨ ؟ مولازم ٩٩ .
– والله هيك التعليمات من الادارة .
– اي طيب وايمتا الكملك ٩٩ ؟
– ماعاد في كمالك ٩٩ ، بس وثائق ٩٨ ، وعفكرة هاي ما بتتقيد بعنوان ولا بتصير بعدين ٩٩ ، ولا فيها سيغورتا ولا بينعطى صاحبها اذن سفر ، ولا بيحسن…..
– اي اي طول بالك حجي ، ليش طيب .
– هيك التعليمات يا اخي .. ليك في ناس عم ينتظروا دورهم في مجال تتفضل من هون .
اعاد السمسار الوثيقة لعبود ، وهو يراقب ردة فعله ، ثم قال :
– والله هاي الشغلة جديدة ، مالي خبر فيها صدقني ..
– أي شغلة اخي ؟ بعدين وين الكملك ؟ وين ورقة الادرس كمان ؟
– والله يا اخي عبود مابعرف .. بس الظاهر انك منحوس ، او حدا ناحسك ، يعني عطوك وثيقة مو كملك ، ولك يا ريت ٩٩ ، عم تبلش كمان ب٩٨ ، شو بدك تسوي حظك هيك .
– بس يا أخي ما هيك اتفقنا .. على اساس كملك ٩٩ ووثيقة أدرس كمان . حكيلك شي كلمة أبو عبدالله .. شبك ؟
– والله يا ابن اخوي ليك ، يعني الوثيقة تقريبا ..متل الكملك
…مافي فرق كتير ..
وال ٩٨ متل ال ٩٩ ، ويعني حسن أخو حسين ، هاد متل هاد ..
– اي بس ..
– لك يا شيخ طول عمرو البني آدم طماع ، اذا عطوه جبل من دهب بدو التاني ، واذا عطوه التاني بدو التالت ، خلصنا ولو .. ويا سيدي بالناقص من واحد ، يعني خلي يصير ٩٨ بدل ال٩٩ ، شو هالشغلة يعني ؟!
– هيك قولتك ؟
– اي اي ، خلص توكل عالله .
– اي تمام ، متل ما بدك ..
– اي حاسبنا لكن خيو .
………………………………………….