مركز العالم
ربما كنت في الخامسة من عمري حين فكرت أن منتصف حقل الذرة في بستانا الصغير هو مركز العالم كله، فمن هذا الحقل اكتشفت نجوما كثيرة تأملتها وعددتها في ليال صيف وشتاء ، ربما من سطح المنزل ، أو من وسط الحقل في ليلة من ليالي السقاية ، فأغوص بالسفر ما بين تلك النجوم وأتنقل بين خافتها ولامعها الى أن أرسم أشكالا غريبة عجيبة كنت آنس بها ، وأُسرّ لها ببعض بذور الحكايا ، ثم أعِدُها أن أرجع في الليلة التالية حتى أُثبّتها في مكانها كي لا تضيع بين غبار النجوم المنثور من الأفق حتى الأفق .
كبرتُ سريعا كما كانت تكبر أعواد الذرة في حقلنا الصغير ، خصوصا بعد حلول وقت المساء ، عندما كانت أوراقه الطرية تمتد بقوة محاولة لمس سواد السماء . ثم مالت دائرة الحياة فرحلتُ مع من رحل في دنيا الله الواسعة ، فهجرنا الحقل دون أن نعدهُ بعودةٍ قريبة ، ودون نعد ترابه بزراعة الذرة مرة أخرى.. ..
كانت زوابع الغربة ودواماتها قد أبعدت عنا كل صور الحقل والذرة ، وطردت حتى تلك النسمات المتبقية الخجلة التي حاولت اللحاق بنا ، فصارت بعض اللقطات من الماضي لوحات مغبرة علقتها في متحف ذاكرتي الذي تلون بالأبيض والأسود .
كنت أسرق من حاضري بعض اللحظات حتى أعود لأمسح غبار بعض اللوحات ، فأكتفي بابتسامة كلما حاولت أن احيي زمن كل لوحة مُغبرّة .
ثم مضت أزمان وازمان ..حملت وجوه أطفال جدد الى الحياة .. ليعبثوا ببعض لحظاتي التي كنت أقتات عليها ، فلم أجد طريقة لأحفظها الا بحصرها بين بعض الاقتباسات .. فضاعت بعض الصور ، وتمزقت أخرى ، وتطايرت البقية متّبعة طريق الزوبعة حتى اختفت جميعها هناك .. في عتمة السماء .
لم يعرف أحد من الذين رأيتهم او ممن التقيت بهم أن تلك الصور كانت حقيقية ، وأنني لم أكن مجنونا أو ممسوسا عندما حاولت أن أشرح لهم معاني تلك الجُمَلِ من الشهب التي قرأتها في صفحة الأفق في منتصف ليلة صيفية ، أو همس حواف الساقية كلما أجفلتني خشخشات السياج بالقرب منها ، أو لمسة الماء بعد ان تملأ شقوق الأرض العطشى ، حين تلامس أصابع قدمي في حضرة أعواد الذرة التي كانت تشرب الماء والليل سويةً .
ها قد ظهر بعضٌ من جدار المستقبل وقد أسندت ظهري اليه لآخذ شهقة من الماضي الذي ولّى معاتبا ، وألقى بيني وبينه برزخا لايمكن اجتيازه ، فضاقت علي الحياة بين جدار ينمو وبرزخ ينافسه في الاستطالة ..
كل شيء كان قد اختُصر في موجة لحن يمتد لبضع من الدقائق فقط ، او في بضع جمل تتعثر ببعضها وهي محتجزة بين جدران القلب ، او دمعة بالكاد تلتمع مرة كل ألف سنة من الرحيل ..
بين حبال هذه الزوبعة التي تحيط بي من قدمي حتى رقبتي .. أحاول أن أهرب بعيني الى النجاة .. الى وسط السماء .. في ليلة اعتقدت أنها ليلة من صيف .. فسماؤها تشبه تلك السموات المنعكسة على سطح منزلنا الصغير .
اهرب بعيني الى الصور التي اختفت يوما في قلب الزوبعة ، وارتفعت لتنثر هناك .. في السماء ، ربما بالقرب من تلك النجوم .
هناك بين تلك الصور المتطايرة ، لمحت شهابا كاذبا .. لكن شهابا آخر لحقه بعد ذلك .. ثم لحقت بهما عدة شهب صدّقت الحكاية كلها .. من أولها حتى آخرها ..
كل شيء كان يحيا من جديد في السماء ، لكن الأرض كانت محاطة بالجدران الآخذة في النمو والارتفاع ..
في لحظة واحدة .. وزمن طويل تؤرخه رمشات عين حالمة ، أحسست أنني هناك ، في حقل الذرة .. أتأمل السماء بعينيّ طفل لا يزال أقصر من أعواد الذرة .. لكنني وأمام جدار أغلق امامي كل شيء ، وبرزخ امتد طولا وعرضا من خلفي ليمنعني من العودة ، أدركت أخيرا أن منتصف حقل الذرة في بستاننا الصغير .. كان حقّاً مركز العالم بأسره . .
…………………….