الحقيبة
كان يوما صيفيا حاراً حارقاً ، ولم يكن هناك ما يدعوا الناس لمراجعة الإدارة مالم يكن هناك ضرورة ملحة .
كل شيء كان ساكناً في حضرة الشمس الممعنة في التأمل في كل تفاصيل الأرض . . كل شيء كان ذابلا يتموج في الأعين كأنه السراب ، حتى وجوه اولئك الموظفين الذين ناصبهم وقتهم العداء ، كانت مشوهة بخيوط متعاقبة من العرق على خدودهم الذائبة بالحرارة الشديدة .
لَمحتُهُ حين دخل من باب الادارة معلّقاً على كتفه حقيبة سفره الاسطوانية وهي تتدلى الى جانبه ببطىء وهدوء .. كانت تبدو متعبة مثله تماما .
اتجه نحو الغرفة مطأطئ الرأس وغارقا في الأفكار .. كان الجهد والتعب قد أنهك جسده الهزيل ،فسلم علي كأنه سلام وداع وقد أنزل حقيبته من كتفه ، ووضعها على الطاولة الصغيرة أمامه ، ورمى بثقل جسده وهمّه معا على مسند الكرسي على يمين الطاولة أمامي ، وألقى برأسه بين راحتيه كأنه يريد البكاء ، لكنه حبس دمعه في حمرة عينيه ، والتفت الي قائلا :
– اريد اذن سفر لو سمحت .
– الى أين ؟
– سوريا ..
– للأسف ، لايوجد اذن إلى سوريا ، عودة طوعية فقط .
– لا أستطيع ، فأولادي وزوجتي هنا كلهم .
– ولم تريد الإذن الى سوريا .؟
– لقد توفي ابني البارحة في المشفى .. لم يكمل الشهر بعد ..
– رحمه الله .
– أريد أن ادفنه في سوريا ، هناك . . في قريتنا ..
تقطع صوته حتى صار همسا بعد أن انتصرت دموعه وانسابت براحة على خديه .. حاولت أن انتقي بعض العبارت حتى أحسن تعزيته في مصابه ، لكنها كانت جوفاء ميتة ومخجلة ، فذلك السيل من الحزن الذي يجري في عروقه جرف كل شيء أمامه ، وطفت كلماتي فوقه كزبد لا نفع فيه ابدا .
صمتنا قليلا ، ثم قال بيأس :
– أتوسل اليكم ! يومين فقط . . أدفنه ثم أعود .. يومين ..
– لكن لماذا ليس هنا يا أخي ؟ فالأرض كلها أرض الله ، وأرض مسلمين .. لم لا تدفنه هنا وتوفر على نفسك عناء السفر في هذا الجو الحار ؟
أدركت أنه لم يكن يصغي الي أبدا ، بل كان شاردا في دنيا غير هذه الدنيا ، ومنصتاً الى صوت آخر من ذلك العالم ، يخبره بالحقيقة الصارخة أخيرا ، ويكشف له ماكان قد خفي عن بصره..
– في أي مستشفى توفي صغيرك ؟
– أنقرة ..
– ومتى ستحضر جثته ؟
– إنه هنا .. وأومىء برأسه ..
– أين ؟
– أمامي في الحقيبة ..
– في الحقيبة !!
لاحظت حارسة الأمن في الجوار أن هناك أمرا ما ، ويبدو أنها كانت تستمع الى حديثنا دون أن تفهم أي شيء ، فاقتربتْ من الطاولة وسألتني ان كان هناك أي مشكلة .
أشرتُ الى الحقيبة ، فألقت عليها نظرة سريعة والتفتت الي . .
– ماذا يوجد فيها ؟
– طفله ..
– ماذا !! طفله ؟؟
لم تنتظر الحارسة حتى أشرح لها ، فأمسكت بسحاب الحقيبة وفتحتها على الفور .
– يا إلهي !! انه طفل .. طفل يا ربي . .
نظرت الى الشاب ثم استقرت عيناها في عيني ، تلتمع باستفسارات وأسئلة شتى ..
– لكن كيف ؟
أخبرتها بما حصل ، وبرغبته بدفن طفله في قريته في سوريا ، لكنها طلبت مني أن اقنعه بدفنه هنا ، بالقرب منه ، حيث يستطيع زيارته متى شاء .. فيمكنه أن يضع الورود فوق قبره ، وأن يقرأ له القرآن .. ثم يمكنه أيضا أن يحضر زوجته الى القبر لمؤانسة طفلها ، بل يمكنه أن يحضر أخواته جميعا اليه ، فلربما يسمع أصواتهم ويفرح بقدومهم .. واستمرّت بالحديث دون أن تتوقف وهي تطلب مني الاصرار على اقناعه بالعدول عن رأيه ..
لاحظت شيئا من انفعالها الذي حاولت أن تتحايل عليه ، واجتهدت في المناورة للتخلص منه ، لكنها كانت تحدثنا وقد نسيت تماما حتى أن تلتفت الى وجهينا ..
كانت تتحدث الى ذلك الطفل المدفون في كفنه الأسود السميك .. في هذه الحقيبة التي سمحت لها بالقاء نظرة أخيرة الى عينين نصف مغلقتين ، ربما لم تريا في حياتهما القصيرة تلك الا الأنوار البيضاء المبهرة والمعلّقة في سقف غرفة العمليات ..
كانت تتحدث في البداية حتى نسمعها ، لكن صوتها استحال الى همس في اذنين صغيرتين طريتين ، لم تسمعا الا خشخشة العلب المعدنية التي خبأت بداخلها مقصات ومشارط وإبر ، استطاعت أن تنجح في هزيمة روح خفيفة الظل ..
كُنتُ مهزوماً ومستسلماُ تماماً بين ثلاثة وجوه .. وجه ذلك الطفل المعاتب في موته.. ووجه الأب المدفون بين راحتيه .. ووجه الفتاة الرحيم الغارق في سيل من الدموع .