الرابحون والخاسرون في الانتخابات التركية الاخيرة – د. سعيد وليد الحاج
تعد الانتخابات محطة مهمة في العمليات الديمقراطية، فهي فرصة للتقييم والحساب بالنسبة إلى المواطنين والكيانات السياسية على حد سواء، كما أنها فرصة لتجديد الشرعية للمؤسسات القيادية المنتخبة. ولأنها سباق بين متنافسِين، فلا شك أن بها رابحين وخاسرين في نهاية المطاف وبعد ظهور النتائج.
وفق النتائج الأولية، فاز الرئيس رجب طيب أردوغان بولاية رئاسية جديدة بعد حصوله على نسبة %52.18 من الأصوات متقدماً بفارق مريح عن منافسه في الجولة الثانية رئيس حزب الشعب الجمهوري ومرشح تحالف الأمة المعارض كمال كليجدار أوغلو، بعد أن كانت الجولة الأولى لم تُحسم السباق الرئاسي بفارق ضئيل. أما في الانتخابات التشريعية التي أجريت قبل أسبوعَين، فحافظ تحالف الشعب الحاكم على أغلبية البرلمان بواقع 323 مقعداً مقابل 212 مقعداً لتحالف الأمة، و65 مقعداً لتحالف الكدح والحريات.
بيد أن معايير التقييم المتعلقة بالربح والخسارة ليست محصورة بالنتائج النهائية المعلنة من اللجنة العليا للانتخابات، فتوجد معايير إضافية مثل المقارنة مع نتائج الانتخابات السابقة، والوعود والتوقعات وما إلى ذلك، بل أزعم أن التقييم يمكن أن يشمل أطرافاً لم تكن ضمن المتنافسين في السباق الانتخابي بشكل مباشر.
فالانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة كانت مختلفة واستثنائية، ونُظِرَ إليها استفتاءً على بقاء الرئيس في الحكم وعلى استمرار النظام الرئاسي، ولذلك انخرط فيها كثيرون بأشكال متعددة وتابعها الجميع كل من زوايته ووفق دوافعه الخاصة.
في المقام الأول، لا شك أن الرابح الأول والأكبر هو الشعب التركي بعمومه، إذ قدم تجربة انتخابية في غاية الانضباط والهدوء والسلاسة رغم حالة الاستقطاب في البلاد وسخونة الحملات الانتخابية.
صوّت عشرات ملايين الناخبين في ساعات معدودة في أكثر من 190 ألف صندوق بطول البلاد وعرضها، دون أن تسجل اللجنة العليا للانتخابات أي حدث كبير أو خرق ملحوظ، وأعلنت النتيجة مساء اليوم نفسه، وعاد الناس إلى حياتهم الطبيعية صباح اليوم التالي.
فاتفق على نزاهة العملية الانتخابية الداخل والخارج، بل وتواتر مديح “النضج الديمقراطي” الذي أظهره الناخبون على ألسنة عدة قيادات من المعارضة نفسها.
في المقام الثاني، لا شك أن أردوغان في مقدمة الرابحين لا فقط لفوزه بولاية رئاسية جديدة بل لأن المعركة الانتخابية الأخيرة كانت مختلفة جداً عن سابقاتها، إذ واجه هذه المرة مرشحاً توافقياً لمعظم أحزاب المعارضة وتعرض لحملات عدائية من الإعلام الغربي فاقت الحملات السابقة.
كما أن الانتخابات أتت في ظروف صعبة داخل البلاد، حيث اجتمعت الأوضاع الاقتصادية المتراجعة مع آفة الزلزال المدمر مع ورقة اللاجئين التي استخدمتها المعارضة بشدة ضده.
أتى كل ذلك بعد حكم الرجل لمدة استمرت 21 عاماً، ما يجعله ظاهرة تستحق الدراسة، فهو من جهة خالف وقائع السياسة التي تحول عادة دون الاستمرار في الحكم كل هذه المدة في النظم الديمقراطية، وهو من جهة ثانية صاحب أطول مدة حكم في تاريخ الجمهورية التركية بشكل واضح.
يمكن قول الأمر نفسه عن حزب العدالة والتنمية ولكن بدرجة أقل، إذ حافظ من جهة على المرتبة الأولى بين الأحزاب وبفارق كبير بعد 21 سنة من حكم تركيا منفرداً، ولكن مع تراجع سبع نقاط في نتائج التصويت.
كما أن تحالف الشعب الحاكم كان بلا شك من ضمن الفائزين، إذ كانت معظم التوقعات تشير لرجحان كفة المعارضة في حيازة أغلبية مقاعد البرلمان، قبل أن يحقق تحالف الشعب المفاجأة. وينبغي تخصيص حزب “الرفاه مجدداً” بقيادة فاتح أربكان بتقييم منفصل، إذ كان بحق من مفاجآت الانتخابات الأخيرة، التي كانت الاستحقاق الأول الذي يخوضه، محققاً نسبة قريبة من %3 وفائزاً بخمسة مقاعد برلمانية.
في الجهة المقابلة، سيكون تحالف الأمة المعارض في مقدمة الخاسرين، فهو كما سلف ذكره خسر الانتخابات الرئاسية والبرلمانية معاً. إن عدم قدرته على الفوز بأغلبية البرلمان يعني فشل برنامجه الأساسي والفكرة التي اجتمعت أحزابه عليها، أي إعادة البلاد إلى النظام البرلماني، لخمس سنوات قادمة على أقل تقدير. ولذلك تحيط بمصير التحالف وتماسكه علامات استفهام كبيرة، لا سيّما وأن رؤساء الأحزاب المنضوية في التحالف خرجوا بمؤتمرات صحفية منفصلة بعد انتخابات الإعادة، بعد أن تبادل بعضهم النقد العلني في وسائل الإعلام بعد الجولة الأولى.
لكن ينبغي تخصيص المرشح الرئاسي كمال كليجدار أوغلو في هذا التقييم، فهو على رأس أكبر أحزاب المعارضة والتحالف على حد سواء، وهو المرشح الرئاسي الذي خسر السباق، وهو صاحب القرار الأول والأخير في قوائم مرشحي البرلمان لحزبه والأحزاب المتحالفة معه، فضلاً عن أنه فرض نفسه مرشحاً توافقياً للرئاسة رغم اعتراض كثيرين وفي مقدمتهم الحزب الجيد ثاني أحزاب التحالف.
فضلاً عن أن منظومة التحالفات التي سعى لها والخطاب الذي تبناه بين الجولة الأولى والإعادة، الذي اتُهم بسببه بالشعبوية والتحريض والعنصرية، لم تُفِده في الجولة الثانية. واليوم، يواجه الرجل موجة احتجاج ومطالبات بالاستقالة من رئاسة الحزب في ظل وجود شخصيات منافسة تطمح إلى خلافته.
وضمن قائمة الخاسرين بعض الأحزاب والتيارات العنصرية التي امتهنت الخطاب الشعبوي المدغدغ لمشاعر المواطنين بمضمون تحريضي اعتمد بشكل مقصود على معلومات خاطئة وإشاعات لا أصل لها، وفي خسارة هذه التيارات وعدم تمثلها في البرلمان مصلحة لتركيا قبل غيرها وصوْنٌ لسلامة نسيجها المجتمعي وسلمها الأهلي.
كما خسر، برأيي، كل من أمل بحصول توتر في الشارع التركي أو حالة من الفوضى والاضطرابات، أو حاول الدفع بهذا الاتجاه.
وأخيراً، يمكن القول إن الاطراف الخارجية التي راهنت على التدخل في مسار الانتخابات الأخيرة لتأييد طرف على آخر بما في ذلك بعض الأساليب غير المقبولة مثل التهديد والابتزاز كانت ضمن الخاسرين.
ولعله من المهم تخصيص بعض وسائل الإعلام الغربية التي خرجت عن أطر المهنية الإعلامية بحملة ممنهجة وشديدة بخصوص الانتخابات، لا سيّما أنها وضعت معياراً لتقييم مدى نزاهة عملية الاقتراع، حتى قبل انطلاقها، بناءً على اسم من سيفوز بها وليس الأدوات المتعبة والتزام القانون والدستور، وهذا فضلاً عن كونه خطأً منهجياً في التقييم فإن فيه مصادرة غير مستحقة على آراء الناخبين.
ولعل هذه الأوساط ضمن الخاسرين لسببَين مهمَّين ومترابطَين، الأول أن رهانها فشل وفاز الرئيس التركي الذي ناصبته العداء وشنت عليه الحملات التشويهية، والثاني أن حملاتها أتت بنتائج عكسية تمثلت في زيادة التفاف كثيرين حول أردوغان، كما كان متوقعاً.
في الختام، بالتأكيد في كل عملية انتخابية رابح وخاسر، لكنها تقييمات ترتبط فقط بالعملية الانتخابية في ظرفها وسياقها وتوقيتها. أما على المدى البعيد، فطالما كانت العملية نزيهة وارتضاها مختلف الأطراف وبقي الاحتكام إلى الصندوق ورأي الناخب في تداول السلطة، فلا خاسر بالمعنى الحقيقي في المعركة الانتخابية الأخيرة، وإنما “الفائز هو تركيا ولا أحد غيرها، كل تركيا، الخمسة والثمانون مليون مواطن” كما قال أردوغان في كلمته عقب ظهور النتائج يوم الأحد الفائت.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.