منهج تحليل الشبكات الاجتماعية والبحث العلمي
د. أسماء حسين ملكاوي، أستاذ باحث مساعد في علم الاجتماع والمجتمعات الرقمية، مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة قطر.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا” وشبك بين أصابعه. (متفق عليه)(1)
مرت مناهج البحث العلمي في العلوم الاجتماعية، ومنها علوم الاتصال والإعلام، بمراحل عديدة من التطور منذ ظهور تلك العلوم كردّ فعل على التحديات التي أفرزتها الحداثة وحتى هذه اللحظة. وقد أسهم في ذلك مرونتُها العالية وقدرتها على التفاعل مع ما يحدث من تحولات على مستوى الفكر والواقع والتأثر به. ويظهر ذلك إذا تتبعنا سلسلة التحولات المنهجية المرتبطة بالنماذج الفكرية التي تلت النموذج الوضعي الذي استندت إليه العلوم الاجتماعية والإعلامية لحظة نشوئها في القرن التاسع عشر، وصولًا إلى الأشكال الحديثة التي انتهت إليها مع ظهور نموذج ما بعد الحداثة، وما بعد الحقيقة، اللذين يُمثِّلان عنوانًا فكريًّا للحظة التي نعيشها، وتعبيرًا عن طغيان الرقمنة على مجالات الحياة كافة، وظهور مستويات معقدة من التواصل الآني والتشبيك على مدار الثانية، لم تشهد البشرية مثلها من قبل.
تركز المناهج التقليدية على دراسة الخصائص الفردية والاجتماعية للفاعلين الاجتماعيين من خلال جمع بيانات أولية بأدوات بحثية، مثل الاستبانة والمقابلة وغيرهما. ومع التحولات الرقمية ظهرت أشكال جديدة من البيانات أُطلِق عليها “البيانات الضخمة” التي وضعت الباحثين أمام تحدٍّ لم يعهدوه. ورغم أهمية هذا النوع من البيانات فإن الطرق التقليدية في التحليل والتفسير لا يمكنها أن تتعامل معه، الأمر الذي يتطلب إيجاد طرق وأدوات جديدة، أو تطوير الأدوات التقليدية.
وتتضمن البيانات الرقمية الضخمة التي تُنشِئها مواقع الإعلام الاجتماعي كثيرًا من الكنوز التي كانت مجرد حلم للباحثين، ففيها معلومات حول المستخدمين ونشاطاتهم، وأفكارهم، وتوجهاتهم، ومنها يمكن استخراج أنماط سلوكياتهم، وتفكيرهم، بما يعين على دراسة المجتمعات وما يدور فيها من أحداث وظواهر اجتماعية وسياسية واقتصادية، وغير ذلك الكثير مما يمكن أن يفيد في كافة أشكال العلوم الاجتماعية والإعلامية وغيرها. لقد قدَّم هذا الأمر للعلوم المختلفة فرصًا غاية في الأهمية لتطوير موضوعاتها ومناهجها ومجالاتها البحثية، خصوصًا المجالات المتعددة التخصصات التي أنتج التعاون بين بعضها مبادرات علمية مهمة، أسهمت في تطور العلوم، ومنها تلك الجهود المشتركة بين علماء الاجتماع وعلماء الحاسب الإلكتروني وبرمجياته، التي عملت على تطوير نظرية الشبكات الاجتماعية في شكلها التقليدي ودخولها مجال الشبكات الرقمية، وما رافق ذلك من إبداع برامج خاصة بتحليل الشبكات الاجتماعية لا تتطلب من الباحثين أن يكونوا متخصصين في علوم الحاسب لاستخدامها. وأصبحت دراسة مواقع الإعلام الاجتماعي هدفًا يسعى إليه الباحثون في المجالات كافة، حتى أولئك الباحثون المتمرسون بالبحث العلمي لفترات طويلة.
وقد جاء التجاوب المنهجي مع التحولات الرقمية الأخيرة وما أفرزته من أشكال حديثة من الظواهر والتفاعلات، سريعًا نوعًا ما في الأكاديميا الغربية، وانصبت الجهود على تطوير المناهج القديمة، أو ابتكار مناهج وأدوات جديدة أفرزها الواقع الجديد، وحولت البيئة الرقمية من موضوع للبحث إلى أداة له، وحققت تلك الأدوات نجاحات كبيرة في فهم الظواهر المرتبطة بالعالم الرقمي، ومراجعة التنظيرات القديمة، وبناء نظريات لها قدرات تفسيرية أكثر نضجًا مما سبقها. وبدأت تتسرب ببطء شديد إلى عالم الأكاديميا العربية، وببطء أشد إلى قاعات الدرس والمقررات الدراسية لطلبة الجامعات من التخصصات المعنية، وصفحات الدوريات العربية، على حد سواء.
وتهدف هذه الورقة إلى معرفة أهم التحولات الفكرية والواقعية التي استدعت تطوير مناهج جديدة، لاسيما مناهج تحليل الشبكات الاجتماعية، والتعرف على الأسس الإبستمولوجية التي استندت إليها مناهج تحليل الشبكات الاجتماعية، وأدواتها، وتطبيقاتها في مجال العلوم الاجتماعية، ودراسات الاتصال والإعلام على وجه الخصوص، وأساليب نقلها وترويجها في العالم العربي، وعوائق ذلك.
وتعتمد الورقة في مادتها النظرية إلى أهم الأدبيات العلمية وما نُشِر في هذا المجال من دراسات ومصادر علمية، فضلًا عن خبرة الباحثة في تطبيق هذه الأدوات الحديثة لإنتاج دراسات علمية في موضوعات الحراكات الرقمية في العالم العربي.
وسعيًا لتحقيق هدفها، تناقش الورقة المحاور التالية:
– المستوى الفلسفي: التحولات في الواقع وفي النماذج الفلسفية.
– المستوى النظري: النظريات الاجتماعية والإعلامية ذات العلاقة.
– المستوى المنهجي: المناهج الرقمية ومناهج تحليل الشبكات.
– المستوى التطبيقي: تحليل الشبكات الاجتماعية باستخدام (NodeXL).
1. الأسس الفلسفية للتحول المنهجي في دراسة الشبكات: جدلية الواقع والفكر والمنهج
التشبيك الرقمي: الإنسان شبكي بطبعه
تتمحور فكرة هذه الجزئية من الورقة حول ضرورة الانسجام بين رؤيتنا للواقع (أو الوجود بالمعنى الفلسفي) وما يطاله من تحولات تستدعي طرح سؤال حول الكيفية التي يبدو عليها، وبين رؤيتنا الإبستمولوجية لآليات إدراكه، وطرقنا المنهجية العملية لإدراكه بالطرق المنتظمة الرصينة علميًّا.
نعيش في واقع تتدفق فيه البيانات الهائلة على مدار الثانية عبر مواقع عدة، منها مواقع الإعلام الاجتماعي المختلفة، وهذا ما تفصح عنه الإحصائيات التي وجدت أن الدقيقة الواحدة يُغرِّد فيها نحو 200 ألف مغرد على تويتر، وتُنشَر نحو 700 ألف قصة على إنستغرام، وتُرفَع 500 ساعة من المحتوى على يوتيوب، وتُرسَل أكثر من 21 مليون رسالة نصية، وأكثر من 69 مليون رسالة عبر واتساب وفيسبوك مسنجر، لا بل ربما أكثر من ذلك بكثير وعبر منصات متعددة.
ويتجه سكان المعمورة إلى الشكل الجديد من التشبيك بوتيرة عالية، فمع أن عددهم بلغ 7.89 مليارات نسمة في أكتوبر/تشرين الأول 2021، فإن منهم 4.88 مليارات مستخدم للإنترنت، و4.55 مليارات مستخدم نشط على مواقع الإعلام الاجتماعي، أي ما نسبته 58% من سكان العالم، هم سكان متشابكون رقميًّا بعضُهم مع بعض.
وتشير إحصائيات عام 2021 إلى أن مجموع مستخدمي الهواتف النقالة حول العالم بلغ 5.29 مليارات، وأن مستخدمي الإنترنت بلغ 4.88 مليارات، أي ما يقارب 62% من إجمالي عدد سكان العالم، أما مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي النشطون فقد تجاوز نصف السكان وبلغ أكثر من 4.55 مليارات مستخدم(2).
لا يمكن تصور أن ينتج البشر هذا الكم الهائل من البيانات دون أن يتأثروا بها، ويؤثروا فيها، وأن يكون لها تبعات على المستويات الإدراكية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها. فمن البديهي القول إن كل ذلك وغيره أدى إلى تغيُّر في طبيعة إدراكنا للعالم من حولنا، وفي طبيعة المفاهيم التي نستخدمها لوصف عوالمنا وتجاربنا المختلفة، وفي طبيعة تواصلنا وتفاعلنا وتشابكنا في سلاسل لانهائية من العلاقات الرقمية.
ورغم أن التشابك والتشبيك وتكوين الشبكات الاجتماعية ليس أمرًا حديثًا، فإن مفهوم الشبكة الاجتماعية يعود إلى بدايات القرن العشرين، إلا أن التمظهر الاجتماعيّ للشبكة النابع من حقيقة أن الإنسان كائن اجتماعي لا يمكنه العيش بمفرده؛ يعود إلى بدء الخليقة، وطالما أن الأمر كذلك فإنه لا محالة كائن تفاعلي تربطه بمن حوله سلاسل لانهائية من العلاقات الاجتماعية، وهذا كله يجعله كائنًا شبكيًّا من جهة إنتاجه لشبكات مختلفة الأشكال من العلاقات الاجتماعية بكافة أنواعها ومصادرها ومضامينها وغاياتها.
نحن، إذن، أمام مفهوم جديد للمجتمع، ومفهوم جديد للتشبيك، وللتواصل، والتفاعل، والعلاقات الاجتماعية. وسواء أعجبنا ذلك أم لا، فإن الواقع يفرض نفسه في نهاية المطاف. ورغم هذا التحول المبهر لشكل العلاقات الاجتماعية التي تَحْدُث على الإنترنت، فإن علينا ألا نغفل عما تتلبسه من مخاوف وقلق. ولئن كانت الجاذبية المعيارية التي تتميز بها هذه العلاقات طوعية وسلسة وعابرة، فإنها لا تعين وفق بعضهم على تثبيت الترابط البشري المتجسد بعمق في مفهوم المجتمع التقليدي. وهذا النقاش أكثر ما يكون في المجتمعات الغربية التي أسهمت فيها المجتمعات التقليدية في بناء المجتمع المدني والدولة الحديثة(3).
وينظر الباحثون في العلوم الاجتماعية عمومًا إلى الأمر من زاوية أنهم ملكوا القدرة على دراسة المجتمع بطريقة جديدة، فها هم البشر أمام إمكانيات غير مسبوقة للتواصل والتفاعل، وها هم الباحثون يرقبون بفرح غامر وجود هذه الأعداد الهائلة من الأفراد المتواصلين فيما بينهم، ويكوّنون جماعات نقاشية، ويتحدثون في نقاشات يومية حول جميع قضاياهم الحياتية، ويتأثرون بعضُهم ببعض.
هذا النقاش الجاري على مواقع التواصل الاجتماعي هو الصفقة الرابحة لجميع الأطراف، وخاصة لمواقع الإعلام الاجتماعي التي تتعامل بعقلية تجارية خالصة مع الأمر، فكلما زاد التفاعل بين الناس على مواقعهم زادت قدرتهم على تطويع خوارزمياتهم وفقًا لرغبات المحتوى الذي يستهلكه المتفاعلون، ووفقًا لخصائصهم الاجتماعية التي أمكن رصدها بسهولة من خلال تقنيات فائقة الذكاء.
وهكذا، فإن التفاعلات والعلاقات الاجتماعية تمثِّل جوهر نجاح مواقع التواصل الاجتماعي، كما أن الخصائص السوسيولوجية لوسائل الإعلام الاجتماعي تعتبر سببًا مهمًّا في نجاحها. وعلى ضوء كل ما سبق، أصبح المختصون المهتمون بالمجتمعات يُعيرون اهتمامهم إلى جوانب أكثر انسجامًا مع هذه التغيرات، ويعتبرون أن قوة العلاقة وطبيعتها بين الأفراد، أو المشاعر المكثفة من التعاطف، والصداقة الحميمة، والدعم الذي لاحظوه بين الناس على الإنترنت، أهم من عامل القرب المادي(4).
ومن جانب آخر، أدى هذا الفيض اللانهائي من البيانات على مدار الثانية إلى إغراق البشرية بحمل زائد من البيانات التي لا يمكن للعقل البشري استيعابها والتعامل معها، كما أن الخوارزميات أصبحت تتحكَّم في جزء كبير من هذه البيانات؛ تخفيها أو تروِّجها وفقًا لأجندات أيديولوجية يفرضها أصحاب المواقع، وأكثر من تأثر بهذا الشكل من الاستبداد الرقمي الحديث نحن العرب عندما نتحدث عن قضايانا السياسية والأخلاقية. وبسبب الجدالات اللانهائية على تلك المواقع، وتبنّي كل مستخدم لموقفه الخاص، والقدرة على فبركة الوقائع والأحداث والمواقف، دخلت الحقيقة باعتبارها قيمة عليا في نفق مظلم، جعل البعض يتحدث عن مرحلة فكرية جديدة أُطلِقت عليها “ما بعد الحقيقة”. فكيف نفهم ذلك وندركه على المستوى الإبستمولوجي، ولهذه المواقع قدرة على خلق واقع مغاير في كثير من الأحيان؟ إذا كان الأمر كذلك، فإنه يلزم فهم هذه الظاهرة من داخلها، ولا نكتفي بالوصف والنقد السطحي. ولذلك فإن رصد الظاهرة وتحليلها ونقدها يحتاج إلى أدوات بحثية جديدة على المستوى المنهجي.
يؤكد تَتَبُّع تاريخ تطور المعرفة العلمية أن المناهج العلمية، لاسيما في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، تتطور وفقًا للتحولات التي تحدث في مجالات الفكر والواقع، أي مع التحولات النماذجية التي تحدث في إطار الفكر والفلسفة، وكذلك التحولات في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي تعيشه المجتمعات. ولا يخفى أن التحولات النماذجية من الوضعية إلى البنائية التأويلية، إلى النقدية والنفعية، وإلى النقدية وما بعد الحداثة؛ أسهمت بشكل كبير في تطوير مناهج وأدوات بحثية جعلت دراسة الظاهرة الاجتماعية والإحاطة بها من أبعاد ومستويات تحليلية عديدة أمرا ممكنًا. وهذا يحسب للجهود العظيمة التي بذلها العلماء في سبيل تمكين الباحثين من فهم عالمهم الاجتماعي. وإذا كان بعض الباحثين قد توقف عند مناهج تعكس مرحلة تاريخية ما، فإن هذا لا يعني قصورًا في العلم، وإنما قصورًا في المؤسسات العلمية والباحثين. ولطالما لعبت تلك التحولات في الواقع على ظهور نماذج فكرية جديدة تحمل دورًا في تحفيز العمل على تطوير نظريات ومناهج وأدوات بحثية جديدة، ولا يسع المجال هنا للتوسع في ذلك، وكل ما يمكن قوله الآن، أن هناك تحولات واقعية وفكرية تستدعي تحولات منهجية، وقد تكون تلك المناهج تطويرًا لمناهج قديمة أو اختراعًا لمناهج جديدة كليًّا. ورغم كونها إفرازًا لنموذج فكري استدعته الطرق المختلفة لفهم الواقع، فإنه يمكن الاستفادة منها في سياقات ثقافية مغايرة، ذلك أن الأدوات البحثية تختلف عن النظريات التي تفسر الظواهر الاجتماعية والإعلامية، وهذه النظريات خاضعة للنقد والتجريب والتطوير والتعديل بأي أدوات بحثية كانت.
تعد مناهج تحليل الشبكات الاجتماعية منهجًا قديمًا تم تطويره ليتلاءم مع الواقع الجديد، فلم تكن الرقمنة سببًا في ظهور الشبكات الاجتماعية، فتلك الأخيرة سمة لصيقة بالإنسان في طبعه، فإذا صحت مقولة أن الإنسان مدني بطبعه، فهو شبكي بطبعه كذلك. وهذه الميزة البشرية في التشبيك التي ينشأ عنها بنى وهياكل ظاهرة وخفية؛ كانت مثار اهتمام الكثير من العلماء والمختصين من مشارب علمية مختلفة، فهناك ثلاثة من التقاليد العلمية على الأقل، كانت أساسًا لظهور نظرية الشبكات الاجتماعية في علم الاجتماع لاحقًا. وهي تقاليد علم النفس الاجتماعي الذي اهتم بدراسة القياسات الاجتماعية (sociometrics)، والأنثروبولوجيا التي اهتمت بدراسة شبكات علاقات القرابة في المجتمعات التقليدية، والرياضيات التي اهتمت بدراسة نظرية الرسوم (Graph Theory). وقد طور علماء الاجتماع نظرية الشبكات الاجتماعية عن تلك التقاليد ودرسوها من منظورين: استنباطيًّا من خلال المنظور الشكلي، معتبرين أن للشبكات هياكل ثابتة وهادفين إلى دراسة طبيعة تَشكُّلها، واستقرائيًّا من خلال المنظور العلائقي، معتبرين أن الشبكة ما هي إلا مجموع ما يتشكَّل فيها من علاقات وما ينشأ عنها من محتوى.
ومع الرقمنة، وفي عصر شيوع فلسفات ما بعد الحداثة والحداثة السائلة، وما بعد الحقيقة، ظهرت الشبكات الاجتماعية كواقع جديد اعتبر فتحًا جديدًا يبشر بإمكانيات هائلة في المجالات الاجتماعية والإعلامية. وقد تمكن تعاون علماء الاجتماع مع مطوري ومهندسي الحاسب الآلي من تقديم أدوات بحثية تقنية تتعامل مع بيانات الجيل الثالث (البيانات الضخمة التي تنشأ عن مواقع الشبكات الاجتماعية).
كان الباحثون يعتمدون في الجيل الأول من البيانات على ما تقدمه الحكومة والمؤسسات الرسمية من إحصائيات وتقارير ويكتفون بها، ثم مع تطور علوم الاجتماع والإنسان، تمكن الباحثون من جمع البيانات الأولية ميدانيًّا من خلال أدوات البحث التقليدية، مثل الاستبانة والمقابلة والحلقات النقاشية، وهذا هو الجيل الثاني. أما الجيل الثالث الذي نحن بصدده فهو شكل آخر من البيانات التي لا يمكن جمعها بالطرق التقليدية، ويقدم بيانات غزيرة وغنية في مختلف المجالات البحثية، بطريقة طوعية، ويمكن الآن للباحثين جمعها وتصنيفها وتحليلها وتصويرها وتوثيقها من خلال أدوات بحثية رقمية حديثة.
البيانات الضخمة وأبحاث العلوم الاجتماعية: الفرص والتحديات
يشير مصطلح البيانات الضخمة (Big Data) إلى البيانات الهائلة ذات البنية الكبيرة والمتنوعة والمعقدة، مع صعوبات في التخزين والتحليل والتصوير لمزيد من العمليات أو النتائج. وتسمى عملية البحث في كميات هائلة من البيانات للكشف عن الأنماط الخفية والارتباطات السرية؛ تحليلَ البيانات الضخمة، التي تتولد من التبادلات التي تحدث على الإنترنت، سواء من خلال البريد الإلكتروني أو الأفلام المسجلة، أو الصوتيات، أو الصور، أو دفق النقرات، والسجلات والمنشورات واستعلامات البحث، والسجلات الصحية، وتفاعلات الشبكات الاجتماعية، والبيانات العلمية، وأجهزة الاستشعار والهواتف المحمولة وتطبيقاتها. ويتم تخزينها في قواعد بيانات سريعة النمو، أصبح من الصعب التعامل معها بأدوات وبرامج قواعد البيانات التقليدية(5).
وتساعد هذه المعلومات الشركات والمنظمات على تحصيل رؤى أكثر ثراء وعمقًا، وميزات أكثر تقدمًا. ولهذا تحتاج تطبيقات البيانات الضخمة إلى الدقة عند التحليل والتنفيذ، وتمثِّل فرصة كبيرة للباحثين في جميع المجالات، خاصة في العلوم الاجتماعية، ذلك أن مناهج البحث الاجتماعي التقليدية (الكمية والكيفية) تعتمد بشكل أساسي على جمع البيانات الأولية من المجتمعات المدروسة وأفرادها، وهذا يتطلب كثيرًا من التخطيط المسبق لضمان الوصول إلى عينة ممثلة، ثم توزيع الاستبانات وتلقي الإجابات ثم تحليلها، وهذا يأخذ وقتًا طويلًا، وربما يستهلك الجزء الأكبر من وقت البحث وجهده وميزانيته، أو أن الباحث في البحث النوعي يحتاج للوصول إلى عينة قصدية ذات معلومات غنية توافق على مشاركته خبراتها وتجاربها في الموضوع مجال البحث، وهذا أيضًا يتطلب كثيرًا من التواصل والانتظار والوقت والجهد. ثم بعد ذلك على الباحث أن يوضح محددات البحث وصعوباته التي واجهته أثناء مسيرته البحثية، وعادة ما تكون عسيرة الحل، كأن يبحث في مجتمعات بعيدة، أو مختلفة ثقافيًّا، أو لا يملك الميزانية الكافية لتوسيع حجم عينته، وغيرها.
وتتيح البيانات الضخمة للباحث الاجتماعي بيانات ذات حجم كبير وغني، يقدمها مستخدمو الإعلام الاجتماعي طوع إرادتهم، ودونما تكلف أو طلب من أحد، ويتحدثون في مختلف موضوعات الحياة، التي تهم شريحة واسعة من الباحثين في التخصصات العلمية المختلفة.
وتعتبر بيانات الإعلام الاجتماعي أحد أشكال البيانات الضخمة التي خضعت لكثير من العمل لتكون صالحة للبحث العلمي، وظهرت كثير من الجهود البينية والمتعددة التخصصات، لاسيما في مجالي الحاسوب والعلوم الاجتماعية، لتمكين الباحثين من جمع البيانات وتحليلها وعرضها، فأصبحت المجتمعات الرقمية تحتاج مناهج رقمية كذلك، فانتقلنا من رقمنة المجتمعات إلى رقمنة علوم المجتمعات.
وتهتم العلوم الحديثة اليوم بالبيانات الضخمة وتحليلها، وقد امتاز العقد الأخير بظهور استراتيجيتين بحثيتين مهمتين في هذا المجال: تصوير المعلومات (Information Visualization)، وتحليل الشبكات (Network analysis). ولهاتين الاستراتيجتين تاريخ طويل في العلوم الطبيعية، ولكن بدأتا بالانتشار لخدمة أغراض البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وظهرت لتسهيلها مجموعةٌ من التطبيقات والبرامج الحاسوبية التي يمكن استخدامها دون الحاجة إلى مهارات تقنية متعمقة، ليس لغايات جمع البيانات وتحليلها فحسب، وإنما لتوليد البيانات الضخمة من خلال إنشاء منصات يعيش من خلال الأشخاص العاديون حياة اجتماعية يمكن تتبعها، ومراقبة الأنماط السلوكية من خلال جمع أنشطتهم واتصالاتهم وحفظها، وتحليلها(6).
تتجه العلوم الاجتماعية والإعلامية إلى دراسة الإعلام الاجتماعي باعتباره موضوعا يخضع للبحث والتحليل، مثل تأثيره على مجمل نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والنفسية والإعلامية، ولكن أصبح هناك من يدرسه باعتباره أداة من أدوات البحث العلمي. وهنا، يتم التعامل مع مواقع الإعلام الاجتماعي كأدوات لجمع البيانات وتحليلها.
وتُعد مواقع الشبكات الاجتماعية (Social Network Sites) أحد أبرز مصادر البيانات الضخمة، ذلك أنها في جوهرها خدمات قائمة على الإنترنت تتيح للأفراد أولًا: إنشاء ملف تعريف عام أو شبه عام ضمن نظام محدود. ثانيًا: تبيان قائمة بالمستخدمين الآخرين الذين يشاركونهم بعلاقة أو ارتباط. ثالثًا: عرض واجتياز قائمة الاتصالات الخاصة بهم، وتلك التي وضعه بها الآخرون داخل النظام. وقد تختلف طبيعة وتسميات هذه الاتصالات من موقع إلى آخر. وما يميز مواقع الشبكات الاجتماعية ليس تمكينَ المستخدمين من اللقاء بالغرباء، ولكن تمكينَهم من تشكيل وإظهار شبكتهم الاجتماعية(7).
ويقترح باحثون لتجاوز تحديات معالجة أعداد هائلة من البيانات أن يجري التعاون بين علماء الاجتماع وعلماء الطبيعة. ذلك بأن هذا النوع من البيانات محط اهتمام العلماء في كافة التخصصات، إلا أن علماء الاجتماع يفتقرون إلى الأدوات والخبرة المطلوبة لإجراء بحث على بيانات ذات مدى واسع (large scale datasets)، بينما علماء الطبيعة يفتقرون إلى الأهداف البحثية لعلماء الاجتماع في استكشاف مواقع الشبكات الاجتماعية للبحث في الظواهر الاجتماعية. حاليًّا، عادة ما يكتفي علماء الاجتماع بأجزاء صغيرة من الشبكات (تتضمن عدة آلاف من المستخدمين)، أو يلجؤون إلى طرق البحث التقليدية، عوض تمكين أنفسهم من التعامل مع الأدوات التقنية المناسبة لدراسة البيئة الرقمية(8).
2. المستوى النظري: مراحل التطور النظري والمنهجي لتحليل الشبكات الاجتماعية
ظهرت أساليب تحليل الشبكات الاجتماعية قبل نحو ثمانين عامًا، واهتمت بالكيفية التي يتفاعل بها الفاعلون الاجتماعيون مع من حولهم ويتأثرون بعضهم ببعض، أي “بنية الفعل الاجتماعي”، وذلك بعد وقت طويل من اهتمام البحوث التقليدية بدراسة السلوك الفردي وخصائص الأفراد. وكانت هذه الأساليب سائدة في الثلاثينيات إلى منتصف ستينيات القرن الماضي، وكانت تهتم بجمع بيانات فردية من عينة عشوائية بعد نزع أفرادها من سياقهم الاجتماعي وإهمال دراسة ما يدور بينهم من أشكال مختلفة للتواصل والتفاعل. ولذلك أصبحت دراسات تحليل الشبكات الاجتماعية جزءًا أساسيًّا من الدراسات البنيوية (structural approach)، التي تركز على دراسة التفاعلات الاجتماعية والروابط العلائقية أو البنية الاجتماعية للفاعلين، وانعكس ذلك على فهم أعمق للظاهرة الاجتماعية. ومن ثم، فإن البيانات التي تُجمَع بهدف دراسة سمات الأفراد وخصائصهم تختلف عن تلك البيانات التي تُجمَع بهدف دراسة البنية الاجتماعية للفاعلين في الظاهرة الاجتماعية (الشبكة الاجتماعية)، ففي الأولى نجمع بيانات خاصة بالسمات الفردية (Attribute data)، وفي الثانية نجمع بيانات خاصة بالعلاقات الاجتماعية (Relational data). كما أن بحوث الشبكات الاجتماعية تعتمد بشكل كبير على الرسومات (graph Imagery)، فنجد أن الفاعلين يتم تمثيلهم بنقاط، والروابط التي تظهر بينهم بخطوط قد تكون موجهة أو غير موجهة(9).
ومن ثم يمكن القول: إن منهج تحليل الشبكات الاجتماعية هو تحليل ودراسة البنية أو الهيكل انطلاقًا من حقيقة أن لنمط الروابط الاجتماعية التي يندمج فيها الفاعلون عواقبَ مهمة على الفاعلين، وأول من تحدث عن تلك البديهيات البنيوية هم علماء الاجتماع، ومنهم أوغست كونت (Auguste Comte) وإميل دوركايم (Émile Durkheim) وهربرت سبنسر (Herbert Spencer)، عندما اهتم لينتون فريمان (Linton C. Freeman) بتتبُّع تاريخ الاهتمام بدراسة الشبكات الاجتماعية وطرق تحليلها في كتابه(10) “تطور تحليل الشبكات الاجتماعية: دراسة في علم اجتماع العلم”. ولتسهيل استيعاب المسألة، سأعرض هذا التاريخ على شكل خط زمني:
جدول (1): الخط الزمني لتطور دراسة الشبكات الاجتماعية
السنوات بالعقود |
أبرز التطورات |
نهاية 1800 |
رواد نظرية الشبكات الاجتماعية: إميل دوركايم، تنشأ الظاهرة الاجتماعية عندما يتفاعل الأفراد. فرديناند تونيز (Ferdinand Tönnies)، الجماعات الاجتماعية تربط الأفراد الذين يتشاركون القيم والمعتقدات. |
1900 |
جورج سيميل (Georg Simmel)، أول من فكَّر مباشرة في مفاهيم الشبكات الاجتماعية في كتابه (On Individuality and Social Forms) عام 1908. |
1920 |
روجر براون (Roger Brown)، أول من استخدم مفهوم الشبكة الاجتماعية عندما قال إن البنية الاجتماعية شبيهة بالشبكة. جماعة هارفارد بقيادة لويد وارنر (Lioyd Warner) وإلتون مايو (Elton Mayo) قدمت دراسات حول البنية الاجتماعية. |
1930 |
دراسات جاكوب ليفي مورينو (Jacob Levy Moreno) حول قياس العلاقات الاجتماعية (sociometry)، فقد مهدت هذه الطريقة للتحليل الكمي للشبكات الاجتماعية، وتمكن مورينو من التسجيل المنتظم وتحليل العلاقات الاجتماعية في المجموعات الصغيرة، مثل الصفوف الدراسية ومجموعات العمل، وهو أول من استخدم مفهوم “شبكة” بالمعنى المستخدم حاليًّا، وذلك عام 1934. وفي 1938 تضمنت أعمال مورينو بمساعدة هيلين جينينغز (Helen Jennings) وبول لازرسفيلد (Paul Lazarsfeld) جميع السمات الأربع التي تحدد تحليل الشبكة الاجتماعية المعاصرة. |
1940-1960 |
تعد الأربعينيات وبعض ستينيات القرن الماضي بمثابة العصور المظلمة في تحليل الشبكات الاجتماعية وفق لينتون فريمان. فلم يكن هناك منهج معترف به للبحث الاجتماعي الذي يمثل النموذج البنيوي، وكان تحليل الشبكات الاجتماعية منهجًا غير ممكن التحديد، سواء كمنظور نظري أو كمنهج في جمع وتحليل البيانات، إلا أن جهودًا تنظيرية معتبرة في مجالات علم النفس والأنثروبولوجيا والرياضيات درست موضوعات ساهمت لاحقًا في تعزيز فهم ودراسة وتحليل الشبكات الاجتماعية على النحو الذي يظهر في العقود التالية. |
1940 |
علماء النفس: تم تعريف الزمرة/ العصبة (clique) بشكل رسمي. |
1950 |
الأنثروبولوجيا: جون بارنز (John Barnes) وهيلين بوت (Helen Bott) ومدرسة مانشستر (Manchester school). |
1960 |
تعد الستينيات والسبعينيات بداية عصر النهضة في حقل الشبكات الاجتماعية وفق فريمان: – حسابات القرابة لكلايد ميتشل (Clyde Mitchell). – تأسيس فرانك هراري (Frank Harary) لنظرية الخريطة (graph theory) وصدور الكتب والبحوث حولها. |
1970 |
مجموعة هاريسون وايت (Harrison White) في جامعة هارفارد، وبروز علماء الاجتماع وتأسيسهم لحقل جديد في تحليل الشبكات (مجلات ومؤتمرات ومؤسسات..). في 1973 بحث مارك غرانوفيتر (Mark Granovetter) في قوة العلاقات الضعيفة (The strength of weak ties)، وما زال بحثه واحدًا من الأكثر البحوث استشهادًا بها في حقل العلوم الاجتماعية. في نهاية عقد السبعينيات أصبح تحليل الشبكات الاجتماعية حقلًا معترفًا به عالميًّا بين علماء الاجتماع. |
1980 |
في مجال الحوسبة: ظهور برامج الشبكات من شركة “آي بي أم” على الأجهزة الحاسوبية. وفي مجال العلوم الاجتماعية، اقترح مارك غرانوفيتر مفهوم التضمين (embeddedness)، وأن عملية الاقتصاد جزء لا يتجزأ من البنية الاجتماعية. |
1990 |
– إصدار (UCINET IV) من قبل (Pajek) كأول حزمة برامج لتحليل الشبكات الاجتماعية. – انتشار الشبكات والتفكير الثنائي (Dyadic Thinking). – بروز نظرية رأس المال الاجتماعي (Social Capital)، مما جذب انتباه العلماء من مجالات أخرى كالسياسة والاقتصاد وعلوم الإعلام والاتصال وغيرها. – كتاب الثقوب البنيوية لرولاند بيرت (Roland Burt) حول قوة الروابط الاجتماعية. – نظرية الموارد الاجتماعية (social resources) لعالم الاجتماع لين نان (Lin Nan)، درس فيها تحليل الشبكات الاجتماعية من منظور رأس المال الاجتماعي. |
2000 |
العلوم الحديثة: – نظرية الشبكات الخالية من المقاييس (Scalle free). – نظرية العالم الصغير (Small World)، كل شخص لدية ارتباط غير مباشر من خلال مجموعة صغيرة من الوسطاء مع أي شخص آخر في العالم. |
المصدر: الباحثة بالاستناد إلى Linton C. Freeman 2004
نظريات الشبكات الاجتماعية
يرى البعض أن الشبكات الاجتماعية ليست في جوهرها نظرية في العلوم الاجتماعية، وإنما طريقة/منهج في تحليل البنى الاجتماعية، ولذلك عادة ما يُطلق عليها “التحليل البنيوي”(11)، بينما يرى آخرون أن النظريات الخاصة بالشبكات الاجتماعية لم ترق إلى المستوى المطلوب، ذلك بأن تحليل الشبكات الاجتماعية ذاته لا يتطلب وجود نظرية، إلا أنه لا بد من تأطير العمل في الشبكات الاجتماعية بنظريات تعين على الفهم(12). ورغم أن التنظير للشبكات الاجتماعية كان ضعيفًا إلى حد كبير، فإن كثيرًا من الكتابات النظرية تمحورت حول مفهوم الشبكة وعناصرها.
بعد أن حدد المستوى التحليلي للشبكات في المستوى المتوسط (الميزو)، أي الذي يقع بين المستوى الضيق (المايكرو) الذي يمثِّل الأفراد، والمستوى الواسع (الماكرو) الذي يمثِّل المؤسسات، وأكد أنه لا توجد نظرية واحدة للشبكات الاجتماعية وإنما نظريات عديدة، قدَّم ماركوس غامبر (Markus Gamper) في مؤلَّفه “نظريات الشبكات الاجتماعية: نظرة عامة”(13)، مجموعة من النظريات التي تصلح للتحليل الشبكي، سنسردها بشكل مختصر بالاعتماد على هذا المصدر، ويمكن الرجوع إلى الكتاب للحصول على مزيد من التفصيل، وسأورد مراجع خاصة بكل نظرية في الهوامش للراغبين بالاستزادة من المراجع الأصلية.
صنف غامبر نظريات الشبكات الاجتماعية إلى صنفين: النظريات الكبرى (grand theories)، وهي التي تتضمن بيانات عامة وأدلة واسعة النطاق، والنظريات المتوسطة المدى (middle-range theories)، وهي التي تهتم بمجالات بحثية حصرية، ولا تعتني بالحياة اليومية للأفراد، ووضع الشبكات في مستوى التحليل المتوسط، لكونها تقع بين العمل الفردي (المستوى الجزئي) وبنية المؤسسات (المستوى الكلي). لكن، أعتقد أن هذا المستوى ينطبق على الشبكات التقليدية البسيطة، أما شبكات البيانات الضخمة فإنه يمكن تحليلها على المستويات الثلاثة السابقة كلها، وذلك يرجع إلى الهدف الذي يريد الباحث التركيز عليه. وسيتم توضيح ذلك في الجزء الرابع من هذه الورقة عند الحديث عن منهج تحليل الشبكات الاجتماعية لبيانات الإعلام الاجتماعي.
أولًا: النظريات الكبرى لبحوث الشبكات
يُعد جورج سيميل (1858 – 1918) أول من تحدث عن الشبكات من خلال تناوله مفهوم الدوائر الاجتماعية، الذي يعني بها التكامل العلائقي في الشبكات الاجتماعية، حيث يجد الإنسان فيها نفسه منذ الولادة، كحلقات الأسرة والقبيلة. وتمتاز هذه الدوائر بقوتها وقربها وممراتها القصيرة والثقة العالية، في حين هناك الدوائر العقلانية التي تمثِّل الاتصالات التجارية والشراكة. وتتشكَّل فردانية كل شخص من خلال ارتباطه بالدوائر المختلفة، وهكذا فقد حدد سيميل السمات الهيكلية الأولى التي يمكن أن تستخدم في تحليل الشبكة.
ويُعد العالم الإثنولوجي النمساوي سيغفريد نادل (Sigfried Nadel) (1903 –1956) منظرًا آخر للعلاقات الاجتماعية من خلال تمييزه بين الدور والعلاقة والبنية الاجتماعية. ويدرس نادل في كتابه “نظرية البناء الاجتماعي”(14) الأدوار التي تنشأ من خلال التفاعل بين الفاعلين، وتعد إحدى نتاجات الشبكة، ولأنها متعلقة بالأعراف الثقافية فإنها عادة ما تكون ثابتة، مثل الصداقة، والأمومة.
وقد لعبت الشبكات دورًا محوريًّا في تحليل عالم الاجتماع الألماني نوبرت إلياس (Nobert Elias) (1897 –1990) للأفراد الذين يعتمدون على بعضهم بعضًا ويؤثرون في التفاعل الاجتماعي وفي الفاعلين الاجتماعيين ذاتهم. ويذكر إلياس في كتابه(15) “أن تصرفات الناس وميولهم تدفعهم للتوجه نحو بعضهم بعضًا وللارتباط بطرق شديدة التنوع، وينشأ عن ذلك شبكات من الاعتماد المتبادل، أو أشكال متنوعة تتميز بتوازن قوى متنوعة. ويكون الفاعلون في هذه الحالة مستقلين نسبيًّا، ولكنهم متشابكون مع الآخرين منذ الولادة في مجموعات من القوة والتبعية”.
أما هاريسون وايت (Harrison White) (1992 – 2012) فيرى أن الهوية الاجتماعية للفرد ليست معطى مفروغًا منه، وإنما يتم بناؤها في الشبكات الاجتماعية، فهي لا تُمنح وإنما يتم التفاوض عليها مع بقية الفاعلين في شبكة ما. والهويات عنده لا تستقر إلا إذا اعترف بها الآخرون وتعرفوا عليها، ولذلك فإن الفاعلين الاجتماعيين يضعون أنفسهم في علاقات مع الآخرين لمحاولة بناء هوياتهم والحفاظ على استقرارها. وهذه البنى متحركة، وتتكون مما يسمى قصصًا يتم مشاركتها، ومن خلال تبادل الخبرات التي يرويها الفاعلون ويشاركونها مع الآخرين(16).
ثانيًا: النظريات متوسطة المدى
تقع هذه النظريات في مستوى تحليلي متوسط، أي بين بنية المجتمع الكبرى والعلاقات البين-شخصية، وهي نظريات تفسيرية قائمة على أساس تجريبي، ويمكن في بعض الحالات تصنيفها ضمن النظريات الكبرى، وقد تكون مفيدة في تطوير الفرضيات أو في تفسير نتائج البحث ووصفها. وسنشير في هذه الجزئية إلى بعض المفاهيم المرتبطة بالنظريات متوسطة المدى.
– نظرية قوة الروابط الضعيفة (The strength of weak ties): ميّز مارك غرانوفيتر في بحثه “قوة الروابط الضعيفة”(17) بين نوعين من العلاقات وفقا لشدتها: علاقات قوية، وعلاقات ضعيفة، والفرق بينهما يعود إلى مزيج من: مقدار الوقت، والشدة العاطفية، والألفة (الثقة المتبادلة)، والخدمات المتبادلة. وتمتاز العلاقات القوية بالتبادل بالمثل، وكثافة عالية بالاتصال، وقوة العاطفة والألفة، والثقة، بينما تمتاز العلاقات الضعيفة بأنها فضفاضة، ذات وتيرة اتصال منخفضة، وعاطفة منخفضة كذلك. ورغم أهمية العلاقات القوية فإن غرانوفيتر تمكّن من إظهار فوائد العلاقات الضعيفة؛ فهي تختزل المسافات في مسارات جديدة وتُمكّن من الولوج إلى معلومات ومصادر خارج إطار البيئة الاجتماعية المتينة، ذلك بأن تلك العلاقات الضعيفة تمكن من بناء الجسور مع جماعات أخرى تحمل توجهات سياسية واجتماعية مغايرة.
وتُعد مقالة غرانوفيتر من أكثر المقالات استشهادًا بها في العلوم الاجتماعية، وقد أسهمت في تحفيز التفكير ودفعت للاهتمام بمؤشرات الشبكات الاجتماعية التي تعكس مركزية الفرد في الشبكة، مثل مركزية الدرجة (Degree centrality)، والمركزية البينية (Betweenness centrality)، ومركزية القرب (closeness centrality)، ومركزية المتجه الذاتي (Eigenvector centrality) وهذه مقاييس يتم استخدامها لقياس خصائص الشبكة والمؤثرين فيها.
– نظرية الثقوب الهيكلية (Structural Holes): توجد الثقوب الهيكلية في الشبكات الاجتماعية وفق رولاند بيرت، عندما يغيب الاتصال أو الارتباط المباشر بين كيانين أو أكثر، أي أن هذه النظرية تهتم بالمساحة الفارغة بين جهات الاتصال في شبكات الأشخاص أو المنظمات أو الكيانات المختلفة. وتعني أن أصحاب جهات الاتصال هذه لا يتفاعلون عن قرب رغم معرفة بعضهم ببعض. ويتعرض الفاعلون على جانبي الثقب الهيكلي إلى تدفقات مختلفة من البيانات، وعليه فإن الثقوب الهيكلية تعكس فرصة للتوسط في تدفق المعلومات بين الناس، والتحكم في المشاريع التي تجمع الأشخاص من الجانبين المعاكسين للحفرة. فالهدف من هذه النظرية هو تفسير كيفية الاستفادة من المنافسة في الشبكات الاجتماعية والعلاقات المتقاطعة بينها(18).
– نظرية التماثل (Homophily): التماثل أو حب المثل، هي قاعدة في الشبكات الاجتماعية، ترى أن العقد في الشبكة تميل إلى الارتباط مع غيرها من العقد التي تحمل الخصائص ذاتها(19)، أي بعبارة أخرى “الطيور على أشكالها تقع”. هذا المفهوم وضعه بول لازرسفيلد وروبرت ميرتون (Robert K. Merton) في العام 1954، وقد ميَّزا بين وضع التماثل (status homophily) وهو ما يتعلق بالسمات كالعرق والجنس والدين والتعليم، وبين قيمة التماثل (value homophily)، وهي تمثل الأشخاص ذوي المواقف وطرق التفكير المتشابهة(20).
– نظرية الزمرة أو المجموعات الصغيرة (Small Groups: The Clique Theory): عرّف جورج هومانز (George Homans) الجماعة (group) بأنها مجموعة أشخاص يتواصلون معا على مدى فترة من الزمن، ويكونون قليلي العدد بما يمكّن كل واحد منهم من التواصل مع جميع الآخرين وجها لوجه. واهتم بدراسة الجماعة الصغيرة التي تتشكل من عدد صغير من الفاعلين، باعتبارها أول خبرة اجتماعية يواجهها الفرد في حياته، بدءا من الأسرة ومرورا بالأصدقاء وزملاء العمل وغيرهم. والزمرة (Clique) أحد مفاهيم المجموعات الصغيرة هذه، وتعني مجموعة أفراد تربطهم علاقات وثيقة ومباشرة وتبادل لأهداف مختلفة(21). وفي بحوث الشبكات أخذ ستانلي واسرمان (Stanley Wasserman) وكاثرين فوست (Katherine Faust) هذا المفهوم وجعلاه بمثابة مجموعة فرعية مكونة من ثلاثة فاعلين مترابطين بكثافة ومجاورين بعضهم لبعض، ويمكن تصويرها في الرسم البياني (الخارطة) كمجموعة فرعية صغيرة (subgroup)(22).
ثالثًا: مفاهيم تنتمي إلى حقل الشبكات الاجتماعية
– مفهوم الشهرة (Popularity) في الشبكات الاجتماعية: يمتلك بعض الفاعلين في الشبكة علاقات أكثر من غيرهم، وذلك إما لأن لديهم سمات وخصائص تميزهم عن غيرهم من ناحية الجنس والعمر والصحة والمال والجمال وغيرها، أو أن الناس يميلون إلى بناء علاقات مع من لديهم أكبر عدد من العلاقات (المشهورين) فتزداد شهرتهم. وهذا المفهوم يشير بشكل غير مباشر إلى ظاهرة المؤثرين أو مشاهير الإعلام الاجتماعي.
– مفهوم التبادل أو المعاملة بالمثل (Reciprocity): عدّ مارسيل موس (Marcel Mauss)(23) الهدية شكلا من أشكال العلاقات الاجتماعية، وآلية من آليات التعامل بالمثل، إذ تتشكَّل الشبكات الاجتماعية وفقًا لهذا المبدأ من خلال ميل الناس إلى التشبيك مع من يشبك معهم، فالناس يتوقعون إعادة الهدية أو المعاملة بالمثل، فتنشأ عن ذلك إمكانيات عديدة لتشكيل شبكات اجتماعية، وهذا مبدأ اجتماعي عام قدَّمه سيميل(24) في نظريته التبادلية.
3. المستوى المنهجي: تحليل الشبكات الاجتماعية لبيانات الإعلام الاجتماعي
اتضح أن تحليل الشبكات الاجتماعية كمنهج ليس أمرًا مستحدثًا أو مرتبطًا بظهور مواقع الإعلام الاجتماعي، وإنما هو منهج قديم استخدم منذ ثلاثينيات القرن الماضي في العلوم الاجتماعية والسلوكية، وفي دراسة بنى المؤسسات وهياكلها، فضلًا عن العلاقات في المجموعات الصغيرة كجماعات الأصدقاء وزملاء العمل والقرابة وغيرها. وقد ازداد الاهتمام بتحليل الشبكات الاجتماعية على نطاق واسع خلال السنوات الأخيرة، وأُعيد إحياؤه بقوة لدراسة بنى العلاقات التي تفرزها الشبكات الرقمية ومضامينها. ولاقى هذا المنهج استحسانًا كبيرًا لدى عدد كبير من الباحثين في العلوم الاجتماعية والإعلامية، لأنه ساعدهم على التعامل مع بيانات ضخمة لا يمكن سبر أغوارها دون أدوات تقنية حديثة، ولذلك يمكنني القول بكل ثقة إن منهج تحليل الشبكات الاجتماعية هو المهارة اللازمة لباحثي العلوم الاجتماعية والإنسانية، وبالضرورة علوم الإعلام والاتصال في القرن الحادي والعشرين.
ترتبط وسائل الإعلام الاجتماعي بالعلوم الاجتماعية من جهتين، أولًا باعتبارها أدوات للحشد الجماهيري التي ساعدت في ثورة الشعوب وقدمت لهم مجالات رقمية بديلة عن المجالات الواقعية التي طالما تعرضت للقمع. وثانيًا، باعتبار أن وسائل الإعلام الاجتماعي قادرة على تتبع الظواهر الاجتماعية الرقمية وتعقبها لحظة بلحظة. واستدعت هذه المزايا إعادة النظر في أساليب البحث القديمة في الظواهر الاجتماعية، فمن خلال تصوير وتحليل الجماعات الإلكترونية أصبح بإمكاننا اكتساب فهم أعمق للحياة الاجتماعية والحشود الرقمية.
كثيرة هي الدراسات التي ربطت بين مواقع الإعلام الاجتماعي والثورات والمجالات العامة الجديدة، أما على مستوى دراسة الظاهرة فإنها بمثابة تَحقُّقِ حلمٍ لطالما تمناه المختصون في العلوم الاجتماعية قبل نحو عشرين عاما من الآن، وهو أن يصلوا إلى طريقة تُمكنهم من معرفة آراء الناس وتوجهاتهم إزاء مختلف القضايا التي تهمهم، ومعرفة أين يذهبون، وماذا يتحدثون، وكيف يعيشون ويتصرفون. وقد أصبح بمقدور المختصين الآن أن يعرفوا كل هذا وأكثر، فمواقع الإعلام الاجتماعي تقدِّم معلومات هائلة عن مستخدميها، على مدار الساعة، وفي كل مكان حول العالم. وأُغرقت الظواهر الاجتماعية بمعلومات وبيانات أكثر مما كنا نحلم به. ودخلت العلوم الاجتماعية في مرحلة ربما لم تكن مستعدة لها، خصوصًا في البلاد العربية التي ما زالت دراسة مواقع الإعلام الاجتماعي تراوح مكانها باعتبارها موضوعًا للبحث لا غير، برغم أنها أصبحت أدوات للبحث العلمي الاجتماعي تمكِّن من فهم كل ما يجري في العالم الافتراضي. لقد اختصرت البيانات الضخمة الطريق على الباحثين، وعوضًا عن جمع بياناتهم الأولية بالطرق التقليدية كالاستبانة والمقابلة وما فيها من عقبات وتحديات، تتوفر لهم اليوم بيانات يقدمها الناس طوعًا عبر حساباتهم الشخصية.
وتتضمن البيانات الضخمة التي تفرزها مواقع الإعلام الاجتماعي شقين أساسيين: المحتوى الذي ينتجه المستخدمون للشبكات الاجتماعية بكافة أشكاله، سواء أكان نصوصًا مكتوبة، أو مصورة، أو مرئية، أو مسموعة. والبنية، وهي الأشكال المعبرة عن طوبولوجيا الشبكة وبنية الروابط داخل الشبكة. هذه البنية يعاد إنتاجها باستمرار وتؤثر مباشرة على نشر المحتوى الرقمي، وشكل إنتاجه واستهلاكه في الوقت ذاته(25). لذلك، فإن منهج تحليل الشبكات الاجتماعية قادر على الكشف عن بنية المجموعات التي تتشكَّل على تلك المواقع، وعلى مضامينها كذلك.
وهكذا يمكن القول إن تحليل الشبكات الاجتماعية أحدُ أشكال التقنيات البحثية الجديدة المتعددة التخصصات، ويمكِّن من قياس وتحليل وتصوير بنية العلاقات التي تتشكَّل في منصات التواصل، مثل “تويتر” و”فيسبوك” وغيرهما، وتحديد تأثير هذه البنية على بقية الظواهر الأخرى. كما يمكن استخدام هذا المنهج في دراسة عدد واسع من الموضوعات والحقول، مثل الإعلام الرقمي، واللغة، والاجتماع، والسياسة والاقتصاد، وعلم النفس، وغيرها.
وإذا كان منهج تحليل الشبكات متعدد التخصصات من حيث نشأته وتطبيقاته، فقد جاء في شكله الحديث نتيجة تعاون حثيث بين مختصين في العلوم الاجتماعية ونظرائهم في العلوم الطبيعية، وأوجدوا تطبيقات حاسوبية مكَّنت الباحثين من دراسة الواقع الاجتماعي الرقمي دون حاجة إلى التخصص في علوم الحاسب وهندسته. ودعت ورقة بحثية مشتركة إلى روح جديدة من التعاون بين علماء الاجتماع وعلماء الطبيعة(26)، وترى أن هذا لا يعني بالطبع أن تتوقف تقاليد نماذج العلوم الطبيعية عن كونها مناسبة لدراسة الحياة الجماعية، بل على العكس تمامًا! هذه التجربة حاسمة في تطوير المناهج الجديدة اللازمة للتعامل مع قواعد البيانات الأكبر والأكثر تنوعًا الموجودة اليوم.
وقد أسفر التعاون بين علم الاجتماع والبرمجة الحاسوبية حقًّا في وضع برامج حاسوبية مختصة في تصوير وتحليل الحشود الإلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، تمكِّن من جمع البيانات وتحليلها وتصويرها بصريًّا. وأسهمت بشكل كبير في فهم الظواهر الاجتماعية التي تحتضنها مواقع الإعلام الاجتماعي، كالحشود الرقمية والحركات الاجتماعية الرقمية وغيرها.
تحليل الشبكات الاجتماعية لدراسة الحشود الرقمية
لا تقل الحشود الرقمية على الإنترنت أهمية عن الحشود التي تجري على أرض الواقع، فكل منهما مؤثر ومهم جدًّا في فهم الحراك الاجتماعي داخل المجتمعات. فعندما تملأ الحشود الشوارع فإنها بلا شك تغيِّر التاريخ، وعلى ذلك شواهد عديدة، وما يجري على مواقع التواصل الاجتماعي من تجمعات حول قضايا ومواضيع محددة، لا يقل أهمية في قدرته على التأثير وإحداث التغيير.
وحيث يمكننا تصوير ما يجري في الشوارع من حشود وتجمعات، بالكاميرات التي نحملها، فإننا حتى وقت قريب جدًّا لم نكن قادرين على تصوير التجمعات والحشود الإلكترونية، وخسرنا إمكانية تصوير ما كان يتم بين الناس من محادثات مهمة حول عدد كبير من القضايا. والآن، وبفضل تعاون علماء الاجتماع وتكنولوجيا المعلومات، أصبح بإمكاننا تصوير وتحليل الحشود الإلكترونية من خلال مجموعة من البرامج الحاسوبية. ولكن، كيف تبدو الحشود على مواقع التواصل الرقمي، مثل تويتر وفيسبوك ويوتيوب وغيرها؟
حاليًّا بإمكاننا معرفة الأشخاص الذين يشاركون في موضوع ما من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، ويبدو كل شخص في هذه الخارطة مثل نقطة، والعلاقة بينه وبين غيره ممن تواصل معه مثل خط، وهذا أساس تشكيل الشبكة الاجتماعية، سواء على مواقع التواصل الاجتماعي، أو في غيرها من المواقع. ذلك أن الشبكة الاجتماعية هي مجموعات تتكون من فاعلين وعلاقات تربط بينهم. ويمكن تمثيل الفاعلين بنقاط، والعلاقات بخطوط. ويسمى الفاعلون بالعُقد أو النقاط (Nodes, vertices or points)، وتسمى العلاقات بالروابط أو الخطوط (Edges, Arcs, Lines, Ties).
وقد استعار علماء الاجتماع بعض الأشياء التي وجدوها مفيدة في الرياضيات لوصف وتحليل أنماط العلاقات الاجتماعية. فتحليل الشبكات الاجتماعية يستخدم نوعين من أدوات الرياضيات لعرض معلومات حول أنماط الروابط بين الفاعلين الاجتماعيين، وهما: الرسوم البيانية والمصفوفات (graphs and matrices). وهناك أشكال مختلفة من الرسوم البيانية التي درج استخدامها في عرض نتائج الأبحاث العلمية كالرسومات البيانية، ورسومات الكعكة، والرسومات الخطية وغيرها. ويستخدم تحليل الشبكات بشكل أساسي نوعًا واحدًا من الرسوم البيانية، وهي تلك التي تتكون من النقاط لتمثيل الفاعلين، وخطوطًا لتمثيل العلاقات بين الفاعلين. وقد استعار علماء الاجتماع هذه الطريقة من الرسم البياني في الرياضيات، وسمّوا رسوماتهم “سوسيو غرام” (socio-grams). ويمكن شرحها بالتمثيل التالي:
لنفترض وجود مجموعة من الأشخاص (رغد، محمد، أرين، عادل) بينهم علاقات صداقة، فيمكن تمثيل كل شخص منهم بعقدة (node).
الشكل (1): شبكة بسيطة تتكون من أربع عقد وأربع علاقات
هذه الصورة تبين وجود أربعة أشخاص لا تربط بينهم أي علاقات، إلا أن سماتهم توضحت من خلال إعطائهم لونًا مميزًا حسب جنسهم.
ولكن لو سألناهم عن طبيعة العلاقات التي تربط بينهم فإنه يمكن تصويرها من خلال خطوط موجهة على النحو التالي: يبدو من الشكل (رقم 2) أن عادل ومحمد بينهما صداقة متبادلة، بينما تعتبر رغد وأرين أن محمد صديقهما، وعادل يعتبر نفسه صديقًا لرغد، بينما توجد علاقة صداقة متبادلة بين رغد ومحمد كذلك.
ويبدو من الرسم أن محمد يشكل عقدة (clique)، بينما أرين تشكل قلادة (pendant)، أي أنها مرتبطة بالمجموعة من خلال علاقة واحدة فقط.
الشكل (2): نموذج شبكة بسيطة
هذه الأشكال البسيطة هي أساس رسم الشبكات الاجتماعية، عندما كانت تدرس موضوعات بسيطة كمجموعات الصداقة والعمل والجيرة وغيرها، إلا أنها في حقيقة الأمر تبدو أكثر تعقيدًا، خاصة إذا رسمنا شبكة للتفاعلات التي تحدث على مواقع الإعلام الاجتماعي، مثل تويتر، والتي تبدو على هذا النحو:
الشكل (3): نموذج لشبكة اجتماعية لبيانات تويتر
المثال أعلاه لشبكة مستخدمي تويتر وهم يتحدثون عن تطبيق “احتراز” القطري الذي فرضته الحكومة القطرية أثناء جائحة كوفيد-19.
والشبكة الاجتماعية في أبسط تعريفاتها تشير إلى مجموعة من الأفراد أو الكيانات المرتبطة بعضها ببعض في علاقات يمكن عرضها على شكل خارطة، ويُسمَّى كل مشارك في التفاعل فاعلًا ويصوَّر كعقدة (node) في نظرية الرسم البياني (graph theory)، بينما تصوَّر العلاقات بين الفاعلين كروابط (linls/ties)، وقد تكون هذه الروابط موجهة أو غير موجهة، كما يمكن للفاعلين أن يكونوا أشخاصًا أو مؤسسات أو مجموعات(27). ومع ظهور الإنترنت، خاصة منصات الإعلام الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وغيرهما، أصبحت هناك أشكال جديدة للتشبيك الاجتماعي بين الأفراد، من خلال تواصلهم وتفاعلهم فيما بينهم على مدار الساعة، وبأشكال وخواص لم يكن تخيلُها ممكنا في السابق. وقد فرضت الشبكات الرقمية نفسها بقوة على الواقع الرقمي، بسبب ما ينشأ عنها من بيانات ضخمة تتمظهر من خلالها أشكال النشاط البشري اليومي، وتعكس في محتواها مضامين الحياة ووقائع الأحداث وسيرورتها على مستوى العالم بطريقة لم تشهدها البشرية من قبل. والبيانات التي تنتجها الشبكات الاجتماعية هي أحد أشكال البيانات الضخمة التي باتت مثار اهتمام الباحثين في المجالات العلمية المتنوعة.
إن أهم ما تقدمه الشبكات الاجتماعية لعلماء الاجتماع والإنسان هو بنية العلاقات الاجتماعية التي تنشأ عن التفاعل الرقمي، فهناك بناء اجتماعي يختلف في شكله ومضمونه عن البناء الاجتماعي للمجتمعات الواقعية. وعندما ندرس هذه الشبكة، فإننا نكشف عن قوى التأثير والحراك الاجتماعي الناتج عن التبادل المباشر وغير المباشر بين العناصر الفاعلة المكونة للشبكة الاجتماعية.
أما تحليل الشبكات الاجتماعية فهو ببساطة عملية التحقق من البنى الاجتماعية من خلال استخدام نظرية الشبكات والرسوم. ويمكن استخدامها في دراسة مدى واسع من الموضوعات كالإعلام الرقمي واللغة والاجتماع والسياسة والاقتصاد وعلم النفس وغيرها. وهو منهج مختلط ومتعدد التخصصات، يعمل على الكشف عن هيكل العلاقات بين الكيانات الاجتماعية، وتأثير تلك الهياكل على الظواهر الاجتماعية الأخرى، والتحقيق في نمط العلاقات الاجتماعية بين الفاعلين (المستخدمين). يقوم تحليل الشبكات الاجتماعية على رسم الخرائط، وقياس العلاقات، والتدفقات بين الأشخاص والمجموعات والمؤسسات وأجهزة الحاسوب ومواقع الويب وغيرها من كيانات معالجة المعرفة، بحيث تكون هناك عقد/رؤوس (nodes/vertices) وهم الأشخاص، في حين تظهر الروابط (edges\links) وهي العلاقات أو التدفقات بين العقد.
وباختصار، يوفر تحليل الشبكات الاجتماعية تحليلًا بصريًّا ورياضيًّا للعلاقات الإنسانية، ويقدِّم تحليلًا لمضمون بيانات الإعلام الاجتماعي وما فيها من مشاعر(28)، كما يقدِّم صورة للشبكة الاجتماعية تمكِّن الباحث من تحديد نوع الشبكة وفقًا للشكل أو الهيكل الذي تبدو عليه محادثات المشاركين في الحديث حول موضوع ما، وأيضًا تحديد المجموعات التي تتمايز وفقًا للموضوعات التي تتحدث عنها، أو الروابط التي تشاركها، أو المواقف التي تتخذها، وتحديد المؤثرين وفقًا لقياسات مركزية الدرجة ومركزية البينية، ومركزية القرب وغيرها. وهذا المنهج في طبيعته منهج مختلط يستخدم طرق التحليل الكمية والنوعية.
4. تحليل الشبكات الاجتماعية باستخدام (NodeXL)
تقدِّم مواقع الشبكات الاجتماعية والإعلام الاجتماعي كمًّا هائلًا من البيانات يمكن تحليلها وفقا لمناهج متعددة، كتحليل المضمون، والتحليل الموضوعاتي، ولكن يمكن تحليلها كذلك باستخدام منهج تحليل الشبكات الاجتماعية، والتعليم الآلي وتحليل المشاعر وغيرها. كما أن تحليل المحتوى والموضوعات يمكن إجراؤه من خلال الأدوات الرقمية بكفاءة عالية. وتهتم علوم الإعلام والاتصال بدراسة محتوى وتاريخ وتأثير الوسائط الإعلامية المختلفة، وهي في هذا ذات اهتمام متداخل من ناحية الموضوع والمناهج والنظريات مع مدى واسع من العلوم الأخرى، وهذه ميزة تحسب لها من ناحية القدرة على الاستفادة منهجيًّا مما تطوره تلك العلوم من منهجيات ونظريات وموضوعات، بغية فهم العالم الجديد الذي أصبحت الرقمنة أحد أهم معالمه الأساسية.
سنقدِّم عرضا سريعًا للإمكانيات التي يحملها برنامج (NodeXL) وقدرته على التعامل مع بيانات الإعلام الاجتماعي، وأفضلية هذا البرنامج على غيره.
الشكل (4): أبرز ميزات برنامج (NodeXL)
يُعد هذا البرنامج نتاج جهود باحثين من تخصصات متعددة على رأسها علم الاجتماع، وقد أُعِدَّ ليتمكن من استخدامه أي باحث حتى لو لم يمتلك مهارات في البرمجة وعلوم الحاسب. ويقدِّم البرنامج للباحثين إمكانية تحليل الشبكة الاجتماعية التي تتشكَّل حول الموضوعات مثار البحث والنقاش على مواقع الإعلام الاجتماعي، لاسيما “تويتر”. كما يمكِّن الباحثين من إجراء تحليل المضمون، وتصوير الشبكة.
مستويات تحليل الشبكة
يُقدِّم تحليل الشبكات الاجتماعية للباحثين إمكانيات تحليل على جميع المستويات الواسعة (macro) والمتوسطة (meso) والضيقة (micro). وكما يبدو في الصورة أعلاه، فإنه يمكن تحليل كامل الشبكة على المستوى الواسع، وهو المستوى الذي يشير إليه الإطار الأخضر، ويمكن تحليل الشبكة على مستوى المجموعات التي تشكلت داخلها، وهو المستوى المتوسط الذي يشير إليها الإطار الأزرق، كما يمكن تحليل الشبكة على المستوى الضيق/الفردي الذي يشير إليه السهم الأحمر. ولكل مستوى من هذه المستويات قياسات وأرقام تحدد شكل الشبكة وبنيتها (Network metrics)، وطبيعة المجموعات وكيف تشكَّلت ولماذا تشكَّلت بهذه الطريقة (Group metrics). كما تُقدِّم القياسات للباحث إمكانية تحديد المشاركين والمؤثرين منهم على المستوى الجمعي والرسائل التي يُقدِّمونها، والفرادى منهم كذلك (Vertex metrics)، فلكل شخص شارك في الشبكة قياساتٌ خاصة به تشير إلى مدى تأثيره.
الشكل (5): مستويات تحليل الشبكات الاجتماعية
تحليل بنية الشبكة
توصل الباحثون في مركز بيو للأبحاثPew Research Center) ) بالتعاون مع مؤسسة أبحاث وسائل التواصل الاجتماعي Social Media Research Foundation)) بعد تحليل الآلاف من الشبكات؛ إلى أن الحوارات الرقمية عبر تويتر تنقسم إلى ستة أشكال من الشبكات الاجتماعية، بناء على طبيعة الحوار المكوِّن للمحتوى والأفراد المساهمين في هذا الحوار أو النقاش الرقمي(29).
الشكل (6): أشكال الشبكات الاجتماعية على تويتر
1. المنقسم (Polarized Crowd)، أو الحشود المستقطبة: تتشكَّل من مجموعتين كبيرتين متقاطبتين، يندر الترابط بين أفرادهما رغم تركيزهما على نفس الموضوع، وغالبًا ما تكون الموضوعات النقاشية المشكّلة لهذه الشبكة ذات أبعاد سياسة أو موضوعات خلافية.
2. الموحد (Tight Crowd)، أو الحشود المتراصة: تتشكَّل من قبل أشخاص يناقشون رقميًّا موضوعات فيها جانب كبير من الاتفاق، مع عدد محدود جدًّا من الأشخاص المعزولين، وعادة ما تتشكَّل هذه الشبكة في النقاشات المهنية والمؤتمرات ومجموعات الهوايات.
3. المجزأ (Brand Clusters)، أو مجموعات العلامات التجارية: تتشكَّل عندما يناقش الأشخاص عبر تويتر منتجات أو خدمات أو شخصيات معينة معروفة ومشهورة.
4. المجمَّع (Community Clusters)، أو المجموعات المجتمعية: تتشكَّل مجموعات شبكية صغيرة كل منها يناقش محورًا محددًا ضمن موضوع ما يخص المجتمع، ولكل مجموعة صغيرة جمهورها ومؤثروها ومصادر المعلومات الخاصة بها، ويوجد عدد من الأفراد المعزولين في الشبكة ممن أبدوا رأيهم، ولكن لم تجد تغريداتهم اهتمامًا من الآخرين، فلم يشكِّلوا مجموعات أخرى.
5. المتجه إلى الداخل (Broadcast Network)، أو شبكة البث: تتشكَّل عندما يعيد الأشخاص تدوين ما تنشره حسابات المؤسسات الإعلامية أو الإخبارية البارزة، وغالبًا ما يجمع الأفراد في الشبكة هو الحساب الإخباري دون اتصال بعضهم ببعض، ونادرًا ما تتكوَّن مجموعات فرعية صغيرة من الأشخاص المرتبطين والمتابعين بعضهم لبعض، والذين يناقشون الأخبار فيما بينهم.
6. المتجه إلى الخارج (Support Network)، أو شبكة الدعم: تتشكَّل عندما يرد حساب خدمة العملاء للشركات عبر تويتر على العديد من المستخدمين، ويحاول حل مشكلاتهم، وهي عكس شبكة البث.
لا يمكن تناول جميع خصائص هذا البرنامج في هذه الورقة، كما لا يمكن الإحاطة بمجال تحليل الشبكات الاجتماعية الحديث المهتم بالشبكات الرقمية، لكن نأمل أن تكون الورقة مدخلًا جيدًا لكل باحث مهتم بالكشف عن جوانب جديدة من الظواهر الاجتماعية الرقمية، وعدم الاكتفاء بوصفها أو معالجتها بالطرق التقليدية. فمنهج تحليل الشبكات الاجتماعية يمنح الباحثين بيانات من نوع مختلف لا يمكن تحصيله بالاستبانة أو المقابلة أو غيرهما.
لذلك، فإن من سمات وميزات منهج تحليل الشبكات الاجتماعية أنه:
- يركز على العلاقات بدلًا من سمات الأفراد.
- يساهم في دفع حالة العلم إلى الأمام.
- عابر للتخصصات، متعدد مستويات التحليل، ومختلط المناهج، مما يجعله صالحًا لتوليد النظريات واختبارها كذلك.
- يصوّر الشبكة ويراقب تطورها، بما يعين على فهم الواقع الإعلامي الرقمي الجديد.
- يوثق الأحداث اليومية ويؤرشفها.
- يحلل المحتوى بطرق أكثر شمولية وإبداعًا.
كما يعين المنهجُ الباحثين على الإجابة عن تساؤلات بحثية مختلفة، تقع في صلب الدراسات الإعلامية ذات الطابع المتداخل مع تخصصات وعلوم أخرى كالاجتماع والنفس والسياسة والاقتصاد وغيرها، وهذه الأسئلة من نوع:
- كيف تناول الناس/المستخدمون لمواقع التواصل الاجتماعي خبرًا ما/ حدثًا ما/ قضية ما؟
- ما شكل الشبكة التي تكوَّنت أثناء تواصلهم: هل هي شبكة مجتمعية، أم مستقطبة، أو شبكة بث أم غيرها؟
- ما المجموعات التي تكوَّنت داخل الشبكة؟ وعلى أي أسس تمايزت فيما بينها؟
- من هم الأشخاص المؤثرون في قضية البحث؟ وما توجهاتهم وطبيعة تأثيرهم؟
- كيف يمكننا مقارنة التغطيات الإخبارية لقضية ما بين المؤسسات الإعلامية المختلفة؟
- ما دور صحافة المواطن في نشر الأخبار حول قضية ما؟
- كيف ساهمت الشبكات الاجتماعية في التأثير على الرأي العام المحلي والدولي/العالمي في قضية ما؟
- ما طبيعة الشبكة الخاصة بشخصية ما، سواء أكانت سياسية أو دينية أو غيرها؟
- كيف يمكن توثيق اللحظات الآنية الهاربة التي تتكوَّن على شبكات التواصل؟
- كيف يمكن المقارنة أثناء تناول قضية ما عبر الزمان والجغرافيا والثقافات؟
- ما الأخبار الزائفة التي تنشأ حول قضية ما؟ وما مصدرها؟
- كيف تتشكَّل الشبكات الرقمية وتتطور وتنتهي حول حدث ما؟
- من يصنع الخبر، والحدث الواقعي أو التفاعل الرقمي.
- كيف أتحقق من صحة نظرية ما وإمكانياتها التفسيرية في إطار ثقافي/زماني مختلف؟
ونجد أن عوائق انتشار هذا المنهج تكمن في الفجوة بين العالم الأكاديمي والممارسة التطبيقية في المجال الإعلامي، وقلة الباحثين والمحكمين والدوريات العلمية المواكبة للتطورات الحديثة على مستوى المنهج، والركون إلى الأساليب التقليدية، وغياب الرغبة في الدراسات المتداخلة، لأسباب مؤسساتية، وشخصية، وعدم مواكبة المؤسسات التعليمية والأقسام العلمية للمناهج الجديدة.
خاتمة وتوصيات
بعد استعراض تاريخ منهج تحليل الشبكات الاجتماعية، والتحول الواقعي والنماذجي الذي تطلّب وضع مناهج جديدة للتعامل مع الشكل الرقمي من البيانات التي تنتجها مواقع الإعلام الاجتماعي، وأهم النظريات المتعلقة بهذا المنهج، وأهم أدواته التقنية، وبالنظر إلى أهمية تشجيع الباحثين للتوجه نحو أدوات جديدة، فإننا نوصي لتجاوز هذه العوائق بما يلي:
- التعاون بين المتخصصين في العلوم الاجتماعية وعلوم الحاسوب لتطوير مزيد من البرامج التي تفيد في التعامل مع البيانات الضخمة لغايات بحثية، خاصة باللغة العربية.
- القيام بترجمات لأهم المراجع والمصادر العلمية حول المناهج الرقمية الحديثة.
- العناية باللغة العربية في مستواها الرقمي، وبناء معجم رقمي عربي، يسهّل للعربية الاندماج في مجتمع المعرفة الرقمية، وابتداع الحلول للمشاكل التي تواجه الباحثين في تحليل نصوص ومضامين الشبكات الاجتماعية العربية.
- تدريس مقررات خاصة بتحليل الشبكات الاجتماعية في الجامعات العربية.
ويمكن للمهتمين الاطلاع على الدراسات العربية التي أعدتها الباحثة باستخدام منهجية تحليل الشبكات الاجتماعية والمنشورة في مجلة “لباب” وغيرها. كما يمكنهم البحث عن دراسات أخرى استخدمت برنامج (NodeXL) من خلال كتابة اسم البرنامج في موقع (google scholar).
نبذة عن الكاتب
د. أسماء حسين ملكاوي، أستاذ باحث مساعد في علم الاجتماع والمجتمعات الرقمية، مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة قطر.